من دفتر الوطن

ثانياً عن أغنية الجليد والنار

| زياد حيدر

في مؤلفه الطويل بشكل لا يصدق، يتحدث جورج مارتن صاحب النص الأصلي لعمل «لعبة العروش» عن صراع بين الظلام والنور، وذلك في مجموعته «أغنية الثلج والنار»، يتجسد بقيادة حضارات متخيلة فيها مزيج من سحر وواقع، نحو النور، النور الذي ينتهي فيه تأثير كل سحر وكل أشكال الخروق الماورائية، وصولاً لانتصار الإنسان الذي هو تراكم خبرات عقلية وروحية ومادية على مدار آلاف السنين.
والمتابع للكاتب أو للعمل، يمكنه التقاط إشارات كثيرة للواقع التاريخي، تقصدها الكاتب بمحتواها العام لا الخاص، فبغض النظر عن توجهاته السياسية التي لا أعرف عنها الكثير، استند بروايته إلى قصص التاريخ، والذي يعترف أنه من المهووسين به.
والجميل في اقتباسه هو خلفيته الخيالية، التي تبعدك عن الانتماءات العقائدية التي تشوه كل أحكامك بما فيها الأخلاقية، ومن الأمثلة على ذلك في العمل حادثة «العرس الأحمر» الذي تجتذب فيها شخصية درامية كريهة عائلة بكاملها لعرس ابنهم من ابنته وتقوم بذبحهم جميعاً، وهم يتناولون عشاءهم، وهي قصة ترددت في التاريخ الأوروبي والعربي والإسلامي، وحفلت الروايات التي تتناقلها بسرد مبرراتها، مغفلة الحقيقة الفاقعة في أن جل تلك المذابح استندت إلى دعوة ضيف مضيفه، ومنحه السلام والأمان.
قصص أخرى يستثمرها الكاتب، ومنها الديانة الخطيرة والسرية المتمثلة في «عديمي الوجوه» وهم قتلة محترفون متعبدون ومكرسون لخدمة إله غامض، يحدد لاعتبارات غير مفهومة من يجب أن يموت ومن يجب أن يبقى حياً، وعن أمثلة هؤلاء ثمة أمثلة كثيرة، تمتد من محاربي النينجا المحترفين، لمجموعات الحشاشين، مروراً بالقتلة المأجورين في عصرنا الحاضر، كما يبني الكاتب أحد أعمدة سلسلته الروائية على مجموعة دينية زاهدة بالدنيا، تستغلها حاكمة مملكة من الممالك للتخلص من منافسيها، لتصبح رهينتها الأساسية مكررة خطأ تاريخياً يتكرر عبر العصور، حين يغذي حاكم التطرف لأغراض حكمه فيدفع كلفة ذلك بنفسه، ومن الأمثلة الأخرى حراس الجدار الذي يفصل بين عالمين متحضر وبربري، وهم رجال أجبروا على تكريس حياتهم لحماية هذا الفاصل، تكفيراً عن أخطاء ارتكبوها ظلماً أو فعلاً، فتناط بهم مهمة حماية العالم المتحضر من الخطر المحدق به، كمثال حراس الهيكل، أو المقاتلين الرهبان، وكامتداد لمثال كل فقراء العالم الذين يناط بهم حمل الثقل الأعظم من الظلم البشري ومن دون مقابل.
ويلجأ الكاتب ومعه صناع العمل، لتأكيد حقيقة مرة أخرى، متمثلة في أن العالم ليس جميلاً، بما في ذلك عالم الترفيه الأكثر جدية، فبعد أن جرب المشاهد والقارئ معاً، التعاطف مع شخصيات ليجدها مقتولة أو مغتصبة أو محطمة، في متن العمل، لا يعد صناعه بنهاية جميلة بالشكل الذي يرغبه أغلبية الجمهور، واضعاً خلال مسيرة العمل عراقيل كثيرة تمنع نهاية سعيدة نقية، تماماً كما هو العالم بشكله الواقعي الفج.
ووفقاً لبطلة العمل إيميليا كلارك، فقد تاهت بلا هدف لساعات في شوارع لندن بعد قراءتها الحلقة الأخيرة، فيما أطرق النجم كيت هارينغتون باكياً.
أما الكاتب فدافع بوجه الانتقادات له بالقسوة الوحشية المتمثلة في مصير الشخصيات أو النص، بأنه استمد كل ذلك من التاريخ البشري الحقيقي «الذي يفوق بوحشيته كل خيال»، بما في ذلك نهاية العمل، التي هي ككل شيء في حياتنا تقريباً: ستكون «حلوة ومُرّة في آن».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن