من دفتر الوطن

الطبيعة الجريحة

| زياد حيدر

منذ سنوات بعيدة، في تسعينيات القرن الماضي، فتحنا نقاشا مع أحد تجار الرمل المتواضعين في الساحل السوري.
كانت جلسة شاطئية مسائية مساء أحد أيام أيلول، جمعتنا فيها مصادفة عادية، ونحن نتأمل غروب النهار، وأقدامنا مبللة بماء البحر.
كان الرمل تحت أقدامنا ناعما، ورطبا، وبدأت برودة الخريف تجعله منعشا، قال الرجل بنوع من الزهاء: إن لدينا في هذه البلد ربما أحسن أنواع الرمل في العالم.
كانت جراراته وعماله يأتون كل مساء، أو فجراً فيسرقون الرمل في قلابات الجرارات وينقلونه للمهندسين والمتعهدين في كل مكان ممكن.
كان الرمل، وبجانبه الحجارة الصغيرة التي يجلبها موج البحر معه، رصيدا ثمينا من مواد البناء الجيدة، التي يرغب فيها البناؤون والمهندسون.
لم يكن هذا مسموحا، بل كان مخالفا للقانون، الذي يفترض أن دوريات حراسة الشواطئ تمنع حصوله، وهو ما لم يكن يحصل لأسباب يمكن للجميع تخيلها.
كانت منسوب الحجارة الناعمة يتراجع، ومعه الرمل، الأمر الذي دفعنا بدافع من الغيرة على بيئتنا، لا تعيبه رغبتنا في التفاخر بمعلوماتنا البيئية، للقول إن ما يقوم به تاجرنا يضر بمنطقتنا، ويدفع بالماء نحو اليابسة أكثر، لأننا هنا نغير معادلة بيئية طبيعية، نحن أنفسنا المحاججين لم نكن نفهمها تماما.
وبالطبع سخر منا الرجل، مستشهدا بوجود هذا الرمل من عشرات السنين، رغم حركة العمار التي جرت، والتي كانت ضعيفة جداً مقارنة بزمن حديثنا،. كان نافذا وواثقا من كلامه وأكبر سنا فسكتنا.
بعد سنوات، ربما عشر أو أكثر بقليل، تبين لنا من دون صدمة، أن البحر لم يتقدم فحسب، بل أكل من اليابسة حتى وصل مشارف الأبنية التي بنيت على أساس التملك القسري للشواطئ العامة التي أمامها.
تقدم البحر، والمساحة التي كانت تكفي للعب مباراة كرة قدم شاطئية لما يزيد على عشرة لاعبين، صارت بالكاد تتسع لشخص أو اثنين.
فهمنا أن ما حصل ويحصل، هو نتيجة، لمقترفات الإنسان، بداية بهذا التاجر الصغير، مروراً بسكوتنا الأعمى، حكومة وأفراداً، والأهم تجاهل الدول الصناعية الكبرى للتهديد البيئي الذي يشكله ارتفاع درجة حرارة الأرض.
والآن وبعد أن دخلنا مرحلة الخطر، ما زلنا نعتقد أن ثمة أموراً أهم من التعاطي مع هذه الكارثة الإنسانية، كما لو أنها لا تعني سوى العالم المتحضر.
أحد علماء هذا العالم المتحضر وفي لقاء صحفي لم ينشر بعد، أكد أن ما يشهده العالم من ظواهر متناقضة ومتزامنة، هو نتيجة لهذا التردي البيئي الذي ساهم الإنسان في صنعه على مدى عقود.
ويقول إن التفسير العلمي ما زال عصيا، لأسباب تواتر هذه الظواهر من جفاف يضرب أوروبا، مترافقاً مع حرائق لا يمكن السيطرة عليها، للشتاءات القاسية التي تضرب الشرق الأوسط، بأمطارها القاسية وسيولها المدمرة، إلا أن المؤكد هو أن التنبؤ بهذه الأحوال، وبالتغير المناخي الحاصل ما زال صعبا، وهو كلام جاء متزامنا بالمصادفة مع اعتذار تقدم به مراقبون للأرصاد الجوية في إسبانيا منذ أسابيع، عن خطئهم في تنبؤ أحوال الطقس لأسبوع كامل، بسبب التغيرات المفاجئة وغير المفهومة، وذلك في حادثة نادرة، تقاطعت مع ما يقوله العالم السابق، وهو أننا رغم اختلاف قدرتنا على التأثير في هذه الكارثة، بين عالمين متقدم ومتخلف، إلا أننا سندفع ثمنها جميعاً بالتساوي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن