قضايا وآراء

«دويتو» الحرب على الإرهاب

| عبد المنعم علي عيسى

يشير تقرير «الصاندي تايمز» البريطانية المنشور في 11 من أيار الجاري إلى انتقائية صارخة ممزوجة بـ«زئبقية» ترصد نزعه مفرطة، وإن كانت تفهم في إطار التلون للتكيف مع وهج المصالح، إلا أنها بالتأكيد ستكون لها تداعياتها لاحقاً على سياسات الغرب القائمة على محاربة الإرهاب في المنطقة، بل وستعزز الدعوات داخل بلدانها، أو هي توفر الوازع الأخلاقي لأسباب أكبر تفرضها استمرارية الريادة العالمية، التي تدعو إلى الانسحاب من الحرب على الإرهاب، مما يمكن تلمسه في العديد من توصيات النخب وكذا مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية ذات الاختصاص وآخرها ما خلص إليه مركز الأمن الأميركي الجديد CNAS الذي ارتأى أن تلك المسألة، أي الانسحاب من الحرب على الإرهاب، هي أحد مقتضيات استمرار الريادة الأميركية للعالم.
يشير تقرير «الصاندي تايمز» سابق الذكر إلى قدرات استثنائية طبعت أداء الاستخبارات البريطانية في رصدها وتعقبها لأحد إرهابيي داعش المسمى «جون» البريطاني الذي ظهر في الفيديو الذي بثته وكالة «أعماق» الذراع الإعلامية لداعش في أيلول 2014، وفيه كان هذا الأخير يقف وراء الصحفي الأميركي جيمس فولي شاحذاً خنجره قبيل أن يقوم بإعدامه ذبحاً.
جرى التركيز، يضيف التقرير، مند اللحظات الأولى لبث الشريط على أمور ثلاثة: أولها هو «لكنة» القائم بالفعل الإنكليزية، ثم على يده اليسرى التي كان يحمل خنجره فيها، وأخيراً على بنيته الجسدية، وخلال ساعات تم تحديد هوية الفاعل إنه محمد أموازي.
ثم يستعرض التقرير سلسلة الخطوات الشاقة التي اعتمدتها الاستخبارات في تعقب الهدف الذي وصفته بالشديد الحيطة والحذر، وفي حالات ظهوره كان ذلك غالباً ما يتم وسط الازدحام، وهذا يؤكد أن الرصد جرى مبكراً ومراراً، لكن سرعان ما اكتشفت نقطة ضعفه التي تمثلت في مواظبته على زيارة زوجته المقيمة في العراق، وفي واحدة منها حدثت يوم 12 تشرين ثاني 2015 جرى تتبع سيارته لمدة 45 دقيقة وعندما توقف جرى اصطياده في غضون 15 ثانية.
انتهى الاستشهاد بتقرير «الصاندي تايمز»، وهو يطرح الكثير من الإشكاليات، فقياساً لهذه القدرات والمهارات الفائقة يصبح السؤال مشروعاً حول لماذا لم تستخدم هذه القدرات في اصطياد قيادات هامة ارتكبت جرائم أكبر بكثير من جريمة «جون» سابقة الذكر؟ أو لماذا لم يجر اصطياد أبي بكر البغدادي نفسه؟ وإن كانت سردية الجريدة البريطانية + الظهور لهذا الأخير الذي يتماثل في كثير من التفاصيل مع ظهور صدام حسين لحظة اعتقاله كانون الأول 2003 باتا يرجحان أن البغدادي هو في القفص الأميركي، أما الاختلاف بين الصورتين فهو مؤشر على حالة احتياج لم تزل قائمة لهذا الأخير بعكس ما كان عليه حال الأول، أم إن قرار الاصطياد والتنفيذ قد جاء رداً على أن الضحية هو أحد أفراد «القبيلة» الأميركية فيما القائم بالفعل منتمٍ لـ«القبيلة» البريطانية وفي هذه الحالة هناك «مساس بالهيبة» تحصل للقبيلة الأولى، وتهمة بالبربرية لحقت بنظيرتها الأخيرة ولا بد من غسل الجرح والتهمة في آن؟
كانت الحرب على الإرهاب التي يرفع لواءها الغرب دوماً انتقائية، بل ومحكومة بزمان ومكان محددين، بمعنى أن تنظيماً أو فصيلاً قد يصنف في مرحلة ما إرهابياً ثم يعود ليرفع عن لوائح الإرهاب كما حصل مثلاً مع منظمة «مجاهدي خلق» الإيرانية، وأن تنظيماً في دولة ما يمكن أن يصنف إرهابياً في حين أن فرعاً، أو أفرعاً، له في دول أخرى قد لا تكون كذلك وفق نفس التصنيف، وهذه الحالة يمكن أن تلحظ في توجه جديد لواشنطن حول تصنيف تنظيم الإخوان المسلمين إرهابياً، وهو على الأرجح سيكون معنياً فقط بفرعه المصري لاعتبارات مرحلية ولن يكون شمولياً لأن من شأن ذلك الوقوع في إشكاليات كبرى فالنظام الحاكم في أنقرة، وكذا الدوحة، إخوانيان، ناهيك عن أن لندن تعتبر المركز الأهم عالمياً، للاتحاد العالمي للإخوان المسلمين، وهذا كله، أي دواعي التصنيف، لا يتبع الإيدولوجيا التي يعتمدها هذا التنظيم أو ذاك، ولا لتغير محتمل فيها وفقاً للحالة الأولى، وإنما ينبع بالدرجة الأولى من تهديده للمصالح الأميركية أو لمصالح إسرائيل تحديداً من بين كل الحلفاء، دون أي اعتبارات توضع في هذا السياق لا من الدول التي تعاني منه أو حتى للأمن والسلم الدوليين.
خاضت الولايات المتحدة، والغرب عموماً بدفع منها، معارك كبرى امتدت لسنوات لتصنيف «حزب الله» ما بعد عملية «عناقيد الغضب» نيسان 1996 تنظيماً إرهابياً، ويشير كلا القرارين 1559 للعام 2004 و1701 للعام 2006 إلى حجم الجهدين السياسي و«ما فوق السياسي» اللذين بذلتهما واشنطن لمحاصرة ذلك الحزب دون أن يعني ذلك أن الجهود توقفت عند ذلك الحد، فهي لا تزال مستمرة وستظل كذلك، والذريعة هي أنه «ميليشيا» مسلحة تحمل السلاح خارج نطاق المؤسسة العسكرية اللبنانية، في حين أنها استولدت ورعت ميليشا «قوات سورية الديمقراطية – قسد» في سورية وهي ما انفكت تعمل على دعمها، بل وتهدد قياداتها إذا ما فكرت بالتحاور مع حكومة بلادها الشرعية في دمشق، ومن الواضح اليوم أنها تسعى إلى إيجاد «تخريجة» لها بالالتفاف على التشدد التركي تجاهها، وما التصريحات التي أطلقتها مؤخراً عائشة حسو الرئيسة المشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، وأخرى شبيهة لها جاءت على لسان إلهام أحمد الرئيسة المشتركة لـ«مجلس سورية الديمقراطي – مسد» إلا دليلاً فاقعاً على ذلك، فالأولى تقول إذا ما كان الخياران المطروحان أمام حزبها هما المصالحة أو المواجهة مع دمشق فإن حزبها سوف يختار الخيار الأخير، فيما تقول الثانية إن ميليشيات «قسد» لن تسبب لأنقرة أي مشاكل أمنية بل على العكس فإنها ستكون مفيدة لها في المنطقة الأمنية المزمع إنشاؤها.
هذان التصريحان يرصدان حالة استعداد لـ«قسد» لأن تكون خنجراً لتركيا في الخاصرة السورية وفقاً للضوابط التي ستضعها واشنطن، وهي، أي حالة الاستعداد، تمثل صورة صارخة للارتهان للخارج ما انفك يمارس شتى أنواع التدمير وبث التشرذم والفرقة بين المكونات السورية، ولا يمكن تفسيرها إلا وفق منحى واحد هو بروز نزعة «الاستعانة بالشيطان» إذا ما كان هذا الأخير يكفل اقتراباً ولو بمتر واحد نحو حلم قيام كيان انفصالي، وذاك بالتأكيد مسعى حثيث، حتى ولو أطلق الأكراد كل ثانية تصريحاً نافياً لذلك بل ولو أصدروا كل لحظة بياناً ينفي وجود تلك النوايا لديهم.
يخطئ الأكراد إذا ما ظنوا أن المواجهة الأميركية الإيرانية المحتملة سوف تؤدي بواشنطن في إحدى مراحل الصراع إلى رفع شعار «حق تقرير المصير» للمكون الكردي كورقة قوية في مواجهة طهران، فعدا عن أن تلك المواجهة تبدو مستبعدة وفقاً لتراسيم حادثتي الفجيرة ومحطتي الدودامي وعفيف بالقرب من الرياض يومي 12 و14 من الشهر الجاري، التي ترسخ لمفهوم أن واشنطن لا تضع مصالح حلفائها كخطوط حمر، فإنها حتى ولو حدثت فإن الأكراد سيكونون هم «الطحنة» الأولى التي ستعتمد لاختبار نوع الطحين الناتج.
يمكن اليوم رصد تغير واضح في مزاجية الشارع الأميركي وكذا نخبه ومراكز أبحاثه تجاه مفهوم الحرب على الإرهاب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن