ثقافة وفن

الخاتمة والحب

| إسماعيل مروة

نقطة البداية، ونقطة الحضور إلى الحياة مقرونة بالحب والترقب والانتظار من أم وأب وأسرة، بل إن المناحات ترتفع إن لم يكن بمقدور أحدهم أو إحداهن أن ينجب، وتبدأ رحلات العلاج والألم وما يتبعها، والتي قد تصل إلى المشعوذين، والطب الشعبي وغير ذلك، ويتحمل الإنسان مزيداً من الألم والمصروفات حتى يجد أمامه فلذة كبده، ليكون الفرح، ولتكتمل دائرة الحب!
وهذه اللحظة من الحب، أو النقطة غاية في القيمة، فقد نجد متحابين للغاية ينفصلان لأن الولد كان غاية الحب! ونادراً ما نسمع من أحدهم أن الحياة تستمر، وأن الحب الموجود هو أعلى من الحب المرتقب أو المرتجى!
يبدأ رحلته بالحب والاهتمام، وتستمر الرحلة، قد تكون مليئة بالحب، وقد تكون مضمخة بالعقوق من جانب القادم، أو بالتقصير والتقتير من جانب من انتظره، وبذل من أجله الغالي والنفيس!
أما العلاقة المتأرجحة فهي الغالبة على هذا الحب، فنجد أن الأهل قد يتحملون الكثير، وهم يغطون على أخطاء من أنجبوا ويتحملون المغارم المادية والمعنوية حتى لا يظهر ذلك للناس ومن أصعب الحالات فقد الأبناء، فقد يتعرض كثيرون لرحيل أولادهم قبلهم، لذلك تنتشر بين العامة مقولة ودعاء (إن شاء الله ما نشوف حسرة الأولاد) وإن حصل فإن الأهل يعانون حقاً، وقد ترتسم معالم الحزن على حياتهم، وربما أصبح لدى بعضهم لوثة لا تفارقه حتى يفارق الحياة الدنيا، ونسمع مقولة: مات بحسرة ولده!
وبالمقابل فإن من انتظر الأهل قدومه بجهد أو بغير جهد ينشغل عندما تكبر أجنحته، ولا يعود إلى رشده، إن عاد، إلا عندما يأتيه هاتف أو طبيب ليقول له: إن الأمر انتهى والموت حقّ وفي حياتنا الحالية فإننا نجد حالات أكثر من أن تحصى لأهل يموتون وأولادهم بعيدون عنهم في ديار الغربة، فتشيع الجنازات من الغرباء دون أن يكون الكتف الذي فرحوا بحب لمجيئه حاضراً.. وإن حضر، فإنه سيحضر بعد زمن لحصر الإرث ومعرفة ما خلف له الأهل! ويستثنى من ذلك الذين يغتربون للفقر والعوز أو لأسباب قاهرة.
الخاتمة نقطة لا تقل عن البداية أهمية في قراءة الحب، وفي دراسة تمظهر هذا الحب العظيم الذي يدير الحياة ويسيرها كيفما أراد وبالطريقة التي يشاء.
الخاتمة من كل شيء، هي النهاية، سواء كانت بالرحيل التام أو النهاية المؤقتة، فهذان متحابان للغاية يحسدهما الناس على ما هما فيه، يغادر أحدهما، فلا تلبث أن ترى الآخر قد انخرط في الحياة، وعبارته الحياة تستمر! هذا الكلام علمي وحقيقي، لكنه يفضح كينونة الحب لديه، ولا يصح هنا تعبير: الذي في القلب في القلب!!
فهل الحب أبدي؟
وهل الحب من المظاهر الثابتة؟
هل الحب من المظاهر الدالة حقيقة؟
بل السؤال الأهم: هل الاحتفاء والمجاملة هو مظهر من مظاهر الحب؟
وهل يصح قول الأمهات والجدات، الله يحببك إلى خلقه؟
وهل حب الخلق دليل جودة؟
وهل حب الخلق ينتج عن تقويم حقيقي؟
سمعت من كثيرين أن الأم دعت له: الله يحبب خلقه بك! ويرى عدد منهم أن الدعاء استجاب له الله، والناس يحبونه!
وهنا تكمن أعلى مراتب الغفلة لدى الإنسان الذي يتوهم أنه محبوب ويعيش على ذلك، ويصدم بالحقيقة، ولا يقدر بعدها على التعايش فيموت ألماً!
فالمرأة الجميلة المتلطفة التي تفاخر بحب الناس لها، وربما تخسر من جوهرها لهذا الوهم عليها أن تتخيل فيما لو كانت غير جميلة.
فهل ستصبح الست والخانم وصاحبة الذوق، والتي يحسد عليها من تعيش معه، وفي أحسن الأحوال عليها أن تنظر في المرآة، عندما ينتهي عمرها الافتراضي بالجمال هل ستبقى مستقبلة لحب الناس وإطرائهم؟! ستجلس تسترجع جمالها وحسب! وفي الأحوال الأكثر شيوعاً، لو مرضت أو أصيبت بداء، فإنها ستفقد دفعة واحدة الحب وتصبح موضع شفقة، ورنين هاتفها يخفت تدريجياً إلى أن يتلاشى! وحين تلتفت إلى الجوهر الذي داسته إكراماً لحب الآخرين ومجاملاتهم يكون قد ارتحل بعيداً بعيداً!!
وصاحب الموقع لا يتوقف الناس عن قرع بابه وطلبه بالهاتف وزيارته، وتقديم الهدايا والواجبات، ويرى ذلك دليلاً على حب الناس فهو محبوب وبابه مطروق، وتستمر اللعبة في تحقيق المصالح بين الموقع والمصالح، وحين يصبح هذا المسؤول إنساناً عادياً، يتجول في كل مكان، ويضطر للتعريف بنفسه بأنه كان ذات يوم، ويعيش بذاكرته على الماضي، وقد يغادر الدنيا دون أن يشعر به أحد، ودون أن يحضر جنازته من كان يرجو ودّه ويتوسل إليه، والقاتل الحقيقي هو الحب، لأن الإنسان لم يميز بين المصلحة والدور والحب، وفي الوقت نفسه نجد من هو أقل من يبقى محاطاً بالمحبين، وهو لم يتسنّم أي موقع أو منصب!!
أما المتحولون فحكايتهم حكاية، مع المعلم، والبيك، والباشا، وسيدنا، فهذا يلعق، وذاك يخدم، وثالث يتملق، والكل يدور حوله راجياً رضاه ليعيش على مائدته وحاله وأعطياته، وإن حدث ووقع هذا المتحول فسنجد هؤلاء أنفسهم يبحثون عن مصادر أمواله، ويصبحون يفهمون بالإفتاء والحلال والحرام، ويبحثون في المال وحقيقته، وهل هو له أم إنه واجهة للمال، ويتحول المتحول والسيد والباشا إلى لص حقير، قد يتحول إلى التسوّل وقد رأينا مثال ذلك في شوارعنا ومقاهينا..!
أما ساعة الرحيل فهي حكاية أخرى أكثر إيلاماً، فالناس في ثقافتنا يرون أن الحب بالمظاهر، فهذا شارك في تشييعه كبار القوم، وهذا صلى عليه الشيخ فلان، والمطران فلان، وهذا زحفت المدينة أو القرية كلها لوداعه، ما شاء الله محبوب، وكل ذلك يتم مصادفة أو جهلاً أو مجاملة أو رياء.
لا مشكلة إلا في آراء الناس، الذين يصفهم بعضنا بالطيبين وهم غير ذلك، الجهل والمصلحة تحركهم، ولكنهم يقولون: فلان الله يحبه فشيعه كثيرون! وجنازته كانت ضخمة! وفلان لأن الله لا يحبه كانت جنازته صغيرة تقتصر على الأهل!
وما علاقة الله بالجنازة؟ قد يرحل أحدنا في ظرف قاس، قد يرحل في جو غير مناسب، قد يرحل مثقلاً بآراء الناس السلبية!
الناس الذين يوصفون بالطيبة، وهم ليسوا كذلك!
ألم نشهد جنازات تقفل الشوارع في المدن أو القرى، وهي لأناس لم يتركوا شيئاً بعد أن يغمرهم التراب؟ ألم نشهد جنازات شعبية أسرية لأناس كانوا من خيرة الناس بناء على وصية أو غير وصية؟!
فما علاقة ذلك بالحب
لو حفظ لنا التاريخ جنازات أديسون واينشتاين ونيوتن وجنازات أحد رجال الدين في زمانهم لعرفنا الإجابات.
لو حفظ لنا التاريخ جنازات المتنبي والفراهيدي والعجيلي وجنازات بعض رجال الدين الإسلامي لعرفنا الإجابات!
الناس تحركهم المصالح والعواطف، ولا يخضعون الشيء إلى التقويم الحقيقي.
أيتها الأسرة حاذري في الفرح في الاستقبال.
أيتها الحسناء ابحثي عن الجوهر، ولا تفرحي بأضواء الفراشة لأنك ستصبحين وحيدة وحيدة.
أيها المسؤول اعمل للناس جميعاً لا لمن يتحلقون حولك أيها المتحول اجعل مالك في مكانه قبل أن يسمن من حولك ويتحولوا إلى شاتمين.
أقول هذا لأن الحب إن لم يكن جوهراً فلا قيمة له، وقد عرفت قصصاً مؤلمة وشهدتها وأنا أرى الحسناء تذوي بالمرض وتخلى عنها من كان يتعشقها، وربما التخلي وراء رحيلها.
وأرى من وهب روحه للفكر يتلطى في تابوته حتى لا يقابله من كان يسامرهم في جلسات وتخلوا عنه، وأرى المال ينهار دفعة واحدة ليلغي تاريخ شخص لأن دوره انتهى.
وحده الحب
وحده الجوهر
يضع نهايات نرسمها نحن، نوصي بها، تكون على مقاسنا بعيداً عن حب خلق الله لك أو كرههم.
قال علي كرم الله وجهه: لم يبق لي الحق صاحباً..
كل من نجد حوله الأصحاب لا يقول كلمة الحق إذاً، وإلا فكيف نفهم عبارة الملهم العظيم؟!
لا تقبل أن يجعلك الناس إلا للحق، لا لذاتك التي قد تتلوث أو تحمل مصلحة.
كم من امرأة تتفوق على الأم تيريزا وأولبرايت لدينا أضعنا؟!
وكم من مبدع لا يقل عن هوغو ذبحنا؟!
وكم من مبدع أشبه فلليني وهيتشكوك انتقصنا؟!
وكم من مفكر لا يقل عن نيتشه وسارتر وروسو حاصرنا؟!
وكله باسم الحب والطيبين والله!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن