قضايا وآراء

أوروبا عندما تقترع

| عبد المنعم علي عيسى

شكلت القارة الأوروبية منذ معاهدة «ويستفاليا» 1648م حبر الدواة الراسم للنظام الدولي الحديث، فقد استطاعت دول القارة عبر تلك الاتفاقية إنهاء حروب ثلاثين عاماً بتوافق مجتمعي قبل أن يكون عسكرياً سياسياً عبر عن نضج طبقاته إلى الدرجة التي أيقنت فيها أن الاحتكام إلى القوانين والتوافقات هو السبيل الوحيد للإمساك بأسباب النهضة التي كانت القارة قد حملت لواءها قبل حين.
مكنت المناخات التي أشاعتها الاتفاقية سابقة الذكر، من إنشاء أرضاً خصبة لاستقرار القارة ومن ثم تمايز الأفكار المرتبط مع تبلور حواملها الاجتماعية التي أخذت تخومها تتحدد شيئاً فشيئاً، لتظهر أول النواتج في الثورة الفرنسية 1789 م ثم تلتها ثورات 1848 م التي استولدت من رحمها بيان «المانيفستو» الشيوعي العالمي الذي أسس لقوة عالمية استطاعت أن تكون أحد قطبي النظام الدولي الذي ساد العالم بدءاً من مطلع القرن المنصرم وحتى مشارف نهاياته.
كانت النظريات والأفكار التحولية التي تنتجها القارة على الدوام نذيراً بتطورات سيشهدها العالم، حيث سيؤدي، مثلاً، تأثر أدولف هتلر بنظريات فرنسيس غالتون التي قال فيها بـ«الأصل الطيب» ووجوب تنقية الجنس البشري «الجيد» من ذاك «الهمجي» إلى أن يشكل ذلك غطاءً فكرياً، أو لبوساً قيمياً، استخدمه الزعيم النازي، من دون أن يكون ذلك لاغياً لإبعاد العامل الاقتصادي، لخوض حرب عالمية مدمرة أراد من خلالها تغيير شكل العالم.
أثخنت الحربان العالميتان الأولى والثانية جراحهما في القارة العجوز الأمر الذي دفع بشعوب القارة بعد أن وضعت الأخيرة أوزارها نحو مد جسور التقارب بهدف التعاون للملمة الجراح وإطفاء نار الكراهية والحقد، تمهيداً لوضع حلول توافقية للسيطرة على صراع المصالح وإبقائه في ردهات الحوار بدل أن ينتقل إلى ميادين الحروب، الأمر الذي شكل مدخلاً منذ مطلع الخمسينيات من القرن الماضي لتأسيس اتحاد أوروبي لم يتخذ شكله النهائي إلا في منتصف الثمانينات مع معاهدة ماستريخت.
مع انتهاء الحرب الباردة عام 1989 سادت أفكار العولمة القادمة هذه المرة من الضفة المقابلة للمحيط الأطلسي، بمعنى أنها لم تكن لبوساً أوروبياً خالصاً وإن كانت رياحها العاتية قد استطاعت دك الحصون الأوروبية ومعها نظائر عدة على امتداد هذا العالم، لكن وبعد مرور عقدين ونصف على سيادتها، كانت الحال الأوروبية تسجل قلقاً متنامياً تجاهها، والمؤكد أن هذي الحال الأخيرة قد تلاقت في جزء كبير من أهدافها مع بروز ظاهرة «الترامبية» التي عبرت عن نظرة أميركية ترى فيها، أي في العولمة، إثراءً لشعوب العالم على حساب الأميركيين، على حين ارتأت فيها شرائح واسعة من الأوروبيين وسيلة لتراجع دورها في مجتمعاتها وتدهور في معيشتها ورفاهيتها بعد طغيان عصر التكنولوجيا وثورة الاتصالات الرهيبة مع تراجع ملحوظ في أهمية الصناعة بمفهومها القديم.
شكلت هذه الحالة الأخيرة سبباً أساسياً في ابتعاد شرائح لا بأس بها من الأوروبيين عن الأحزاب وكذا النخب السياسية التقليدية، ما أصبح يعرف بظاهرة «الشعبوية» التي تعني في وجهها الآخر الالتحاق بمن هم قادرون على إسداء الوعود وإطلاق الشعارات الفضفاضة بمعزل عن كونها واقعية، أو هي قابلة للتحقيق أم لا.
ستخوض أوروبا وعلى امتداد أربعة أيام بدءاً من 23 أيار الجاري معركة انتخابية مهمة لاختيار 705 نواب يمثلون 700 مليون نسمة، أي 10 بالمئة من سكان العالم، ومع ذلك فإن هذا الرقم جاف إذا ما استخدم لقياسه ميزان الديموغرافيا فحسب، فالثقل الحقيقي لهؤلاء هو أكبر بكثير مما توضحه المعادلات سابقة الذكر، ومن المتوقع وفق غالبية استطلاعات الرأي أن يحصد الشعبويون عدداً من المقاعد يفوق الـ100 مقعد أي بنسبة تمثل قريباً من 10 بالمئة من ثقل الشارع الأوروبي الذي تقول الإحصائيات إن نسبة مشاركته في هكذا انتخابات لا تزيد في الغالب عن 50 بالمئة وهذا يطرح إشكالية في ميول الباقين التي غالباً ما تكون أقرب إلى حال التململ الباحثة عن أي جديد.
قد لا تشكل النسبة السابقة رقماً مخيفاً للحياة السياسية الأوروبية أو لموازين الثقل الحاكمة فيها، انطلاقاً من أن هذا الثقل لا يشير إلى قرب إمساك هؤلاء بدفة القرار السياسي، إلا أن من يرقب هذه الظاهرة سيرى إنها مقلقة، فهي من ناحية تعمل سريعاً على تطوير نفسها ومن ثم تتقدم أكثر من ناحية أخرى مستندة على ومتناغمة في آن، مع لحظ دقيق لميول الشارع، فقد بدأت عبر المواقف الرافضة لاستقبال المهاجرين، ثم تطورت إلى معارضة الاتحاد الأوروبي، ثم تقدمت نحو التخوف من التعددية الثقافية وذوبان الشخصية الأوروبية، وهذا كله سيفضي إلى حال من الانغلاق والتزمت كانت لها تجارب كارثية في مراحل سابق عديدة.
صعود الشعبويين الآن قد لا يكون مقلقاً وفقاً لتقديرات أوزان هؤلاء، لكن ماذا كانت تمثل النازية من ثقل في العام 1925، أي قبل 8 أعوام من وصولها إلى السلطة العام 1933، و14 عاماً على إطلاقها شرارة الحرب العالمية الثانية، لقد كانت النازية ألعوبة حينها، بالرغم من حجم الدمار والقتل الذي خلفته فيما بعد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن