الأولى

البرلمان الأوروبي

| تييري ميسان

حين كان البريطانيون يقترحون على العرب تأسيس الجامعة العربية، كانت الولايات المتحدة تساعد أوروبا الغربية على تأسيس «ولايات متحدة أوروبية»، وكان ذلك إيذاناً ببداية الحرب الباردة والإنغلو ساكسونيين، الذين كان ينتابهم الهلع من جرائم ستالين في بلده، بقدر هلعهم من انتصاره على الرايخ الثالث، كان يسكنهم هاجس قدرة السوفييت على غزو الأرض برمتها لاحقاً، ولذلك وضعوا معاً خطة مشتركة لسياسة «احتواء» الاتحاد السوفييتي، فقسموا العالم إلى مناطق، وأعادوا تنظيمه تحت وصايتهم.
الآن، وبعد مرور أكثر من سبعين عاماً، لم تعد الجامعة العربية سوى خواء أجوف تمزقها الانقسامات، بعد أن اندثر ما كان يسمى «حلف بغداد»، وأضحى الاتحاد الأوروبي قوياً، تحت حماية حلف شمال الأطلسي.
لقد تعرض العالم العربي في السنوات الأخيرة لإعصار «تغيير النظم الحاكمة» والحروب، على حين ظلت أوروبا مستقرة سياسياً، لكن من الخطأ الاعتقاد بأن العرب لم يعد لهم مستقبل، وأن الأوروبيين سينعمون دائماً بـ«السلام والازدهار»، لأن العرب بدؤوا مشوار تحررهم، ولو ببطء، على حين الأوروبيون مازالوا مكبلين.
كيف؟ هذا السلام الذي نراه في الاتحاد الأوروبي هو سلام الجبناء: فشمال قبرص، لا يزال محتلاً من الجيش التركي. والازدهار الزائف في دول الاتحاد هو حقيقة -2 بالمئة في معدلات النمو الاقتصادي منذ الأزمة المالية في عام 2008، وهو في الواقع لاشيء، مقارنةً مع ازدهار الصين، + 136 بالمئة خلال الفترة نفسها.
يفرض الاتحاد الأوروبي نفسه على العالم كنموذج ديمقراطي، وهذا غير صحيح إطلاقاً، لأن انتخابات البرلمان الأوروبي، كما انتخاب رئيس المفوضية الأوروبية ليسا سوى غواية خادعة. فالسلطات الموكلة لهذا البرلمان، وفقاً للمعاهدات المبرمة، لا تتعدى السلطات الممنوحة لمجلس الشورى السعودي. فهو يناقش، والحق يقال، الكثير من القضايا ويرفع التوصيات بشأنها، لكنه، أي البرلمان الأوروبي، لا يملك سلطة التدخل في تشريعات دوله الأعضاء.
هناك بلا شك كتل نيابة داخل البرلمان الأوروبي، لكنها لا تستطيع تشكيل تحالف، أو تكوين أغلبية برلمانية، وقد يظن البعض أن البرلمان هو الذي يُعين رئيس المفوضية الأوروبية، وهذا غير صحيح أيضاً، لأن المعاهدات المبرمة تنص على أن هذا الأمر منوط بمجلس رؤساء الدول، مع «الأخذ بعين الاعتبار» بنتيجة تصويت المواطنين، بطبيعة الحال. هذا يعني في الممارسة العملية، أن مجلس الاتحاد يختار شخصاً ترشحه المجموعة السياسية التي حظيت بالمرتبة الأولى في الانتخابات، وهكذا تم اختيار رئيس وزراء لوكسمبورغ السابق «جان كلود يونكر» في عام 2014، على الرغم من دعم ربع النواب له فقط.
حقيقة الأمر إن تعيين رئيس المفوضية الأوروبية يتم دائماً بالتنسيق بين الولايات المتحدة وحلف الناتو فقط، وجان كلود يونكر هو الذي أجبر على الاستقالة، عندما اكتشف أحد القضاة دوره في خدمة جهاز استخبارات تابع لحلف شمال الأطلسي، والتجسس ضد بلده لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية. وعلى الاتحاد الآن أن يقبل مرشح رئاسة المفوضية الأوروبية الألماني مانفريد فيبر خليفة له، بعد أن تعهد الأخير بالعمل على تخريب إمدادات الاتحاد الأوروبي بالغاز الروسي، مهما كان الثمن مكلفاً للشعوب الأوروبية.
لقد شكلت الولايات المتحدة النتائج التي تمخضت عنها انتخابات البرلمان الأوروبي منذ بداية الحملة الانتخابية، فكانت على الشكل التالي: وصول مجموعة اليمين المسيحي في المقدمة، وباقي الأحزاب الشعبوية في المرتبة الثانية. وبهذه الطريقة، سيتم « ديمقراطياً» تعيين مانفريد فيبر رئيساً للمفوضية الأوروبية، ولن يكون قادراً على صياغة قوانين تتعارض مع مُثُل الشعبويين.
ولضمان الحصول على هذه النتيجة مسبقاً، فقد اشترت الولايات المتحدة ذمم قادة أهم الأحزاب البولندية، والهنغارية، وحرضت على إسقاط الحزب الشعبوي النمساوي في الانتخابات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن