ثقافة وفن

نوتردام باريس: عندما تصبح الكتابة فن عمارة … في نبوءة هيغو «أحدب نوتردام» يتطاير الشرر إلى أن تصبح الأشياء المحترقة تماثيل لشياطين

| إعداد: مها محفوض محمد

منذ الحريق الذي أصاب كنيسة نوتردام في الخامس عشر من نيسان الماضي لا تزال رواية فيكتور هيغو «نوتردام باريس» تتصدر مبيعات الكتب في فرنسا ولا غرابة في ذلك مادامت الرواية ارتبطت مع هذا الصرح في موطن الخيال الفرنسي وحين يكون الانفعال قوياً لدى الفرنسيين فإنهم يحبون البحث عن ملاذ وسط الأدب، إما للمواساة وإما لفهم أفضل لعالمهم كما حصل بعد تفجيرات 13 تشرين الثاني 2015 إذ انتشرت من جديد رواية « باريس عيد» لإرنست همنغواي وارتفعت مبيعاتها خلال ساعات قليلة من الزمن.
«نوتردام باريس» الرواية الشهيرة التي كتبها فيكتور هيغو في القرن التاسع عشر على أن أحداثها تدور في القرن الخامس عشر لها أبعاد اجتماعية وفلسفية عميقة إضافة إلى طابعها التاريخي حيث تسرد تاريخ باريس وتاريخ الكنيسة التي تدور أغلب أحداث الرواية بداخلها وقد ترجمت إلى العربية تحت عنوان «أحدب نوتردام» نسبة إلى قارع أجراس الكنيسة كوازيمودو المعاق القبيح الشكل الذي يقع في حب شابة جميلة (ازميرالدا) لم تسخر من عاهته بل وجد لديها معنى الجمال الإنساني الذي حرم منه وهي الوحيدة التي رأت ما بداخله من طيبة وجمال رغم بشاعة شكله.

الرواية التي ترمز إلى صراع إنساني وانتصار القوة الموجودة لدى الأحدب المشوه جسدياً على الظلم السائد حينذاك والتي تم اقتباسها إلى السينما عدة مرات ثم إلى رسوم متحركة اقترنت أكثر بالكاتدرائية وكانت سبباً في ازدياد شهرتها لذلك حضرت بقوة مع مشهد الاحتراق لأنه وفي أحد فصول الرواية يصف هيغو حريقاً يلتهم الكاتدرائية قائلاً: «إلى أعلى الكنيسة تشخص الأبصار حيث التصقت النظرات بمشهد استثنائي وفي أعلى الرواق كان لظى النيران يتمدد بين البرجين وينثر ألسنة من الشرر……. إلى أن يقول: النيران تنحت من الأشياء المحترقة تماثيل داكنة لشياطين تجسدت فيها كل معاني البشاعة».
فكان لديه إحساس داخلي مصحوب بالقلق بأن شيئاً ما سيحدث، فجاء توصيفه للمشهد بمثابة تحذير ليبدو اليوم وكأنه نبوءة لما حصل وفي روايته التي نشرها عام 1831 وجعل من الكاتدرائية شخصيته الرئيسية فكان أحد الصناع المهرة لها، يقول في بعض وصفه: «إنها نوع من إبداع إنساني جبار غني كإبداع رباني تبدو وكأنها اختلست أوصافها من الخيلاء لتبقى أبدية».
كذلك وبعد نشر الرواية ازداد الاهتمام الشعبي بالكاتدرائية كما ساهمت بشكل أساسي في مشروع ترميمها، نوتردام التي تعد تحفة فنية من العمارة القوطية وشاهدة على تاريخ فرنسا منذ العصور الوسطى وحتى القرن العشرين حيث جرى في داخلها تتويج ملوك فرنسا واحتفال تحرير فرنسا من النازية ومراسم جنازات شارل ديغول وبومبيدو وفرانسوا ميتران، مخرجون وموسيقيون أيضاً جعلوا من الصرح الوقور ديكوراً لأعمالهم. وبعد الحريق الذي وقع في الخامس عشر من نيسان الماضي لم تهدأ الصحافة الفرنسية عن تناول الحدث يومياً على مختلف صفحاتها (سياسة- ثقافة- فن- مجتمع).
بولين غيار مهندس معماري وباحث في التراث كتب في صحيفة لوفيغارو تحت عنوان: «عندما تصبح الكتابة فن عمارة، رواية نوتردام باريس كتبت بطريقة الكاتدرائية» يقول: لم نندهش من قوة الطلب على الرواية فور وقوع الحريق لأن هذه الرواية ساهمت بشكل كبير في إنقاذ الكاتدرائية التي تعرضت لحالات انهيار في مراحل ما قبل ظهور الرواية وكانت قد أيقظت الوعي الجمعي لدى الناس ما أدى إلى الانتباه إليها والمساهمة في إعادة ترميمها في مراحل لاحقة.
وبصور فن العمارة التي برع هيغو في توصيفها بلغت روايته غنىً لا حدود له وأدار حبكتها بمهارة غير أن هيغو أراد أن يلفت إلى أمر آخر حين قال في مدونته التي أضافها إلى نسخته النهائية عام 1832: «قد يروق للقراء إذا أرادوا أن يميزوا شيئاً آخر» وهنا يريد هيغو المجاهرة بأن الأدب يتفوق على فن العمارة مروراً بتكهن رئيس الشمامسة فرولو «هذا سيهدم ذاك» هذا للكتاب وذاك للصرح، أي إن «المطبعة ستقضي على فن العمارة» وما حصل بعد الكارثة التي أصابت الصرح التاريخي بهذا الشكل يأتي متوافقاً تماماً مع الذي رصده هيغو فالكتاب الذي ازدحم عليه الطلب والأدب الذي عادت سطوته من داخل الرواية وتعليقات الصحافة الغاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي احتلت مكاناً فاق بكثير حجم الصرح وبحسب هيغو فإن تفوق القلم على الحجر يرقى تاريخه إلى اختراع المطبعة فهي أتاحت للكتاب أن يصبح الوسيلة ذات امتياز لنقل الفكر حيث حل محل فن العمارة التي كانت إلى ذلك الوقت لها الدور الرئيسي بذلك «هو الحدس بأن الفكرة الرئيسية لدى كل جيل سوف لن تكتب بذات الطريقة وبذات العناصر وما نقش على الحجر الصلب لن يحل محل الكتاب الورقي الذي سيكون أكثر صلابة وأكثر ديمومة».
هذا ما يشرحه في فصل (هذا سيهدم ذاك) فالفكر كان قد وجد دعامة أخرى ليعبر عن نفسه فيختفي بشكل حتمي من فن العمارة لتفقد دورها الذي كانت تقوم به ومع تطور الصورة وتسارع آلياتها فقد فن العمارة أهميته وولى إلى غير رجعة، لقد قتله الكتاب المطبوع كما وجدنا أن عظمة كاتدرائية نوتردام تكمن في الكتابة الخيالية التي قدمها فيكتور هيغو ليتغلب على فن العمارة على طول الرواية فهو يغير بشكل الكاتدرائية لجذب القارئ أو لتخويفه كما جعلها نابضة بالحياة بطريقة تعبير شاعرية عن الفانتازيا والتنوع ما أضفى عليها هالة الشخصية الرئيسية ليظهر بهذا العمل تفوقاً جديداً للأدب ويوثق نظريته ببصمة رومانسية، ويبدو أن فيكتور هيغو يبحث عن تفسير لتعقيد العلاقة بين فن وآخر وقد اشتغل بدقة كي يجسد في روايته فن العمارة القوطي المغرم به فالرواية التي تعد واحدة من أيقونات الأدب الفرنسي هي رواية تاريخية جعلت عدداً من الباحثين يشهدون على باريس 1482 وتعرض للجمهور تشريحاً مفصلاً لفن عمارة الكاتدرائية كما دأب هيغو على كشف أهمية الرموز المخفية أو المجهولة أي المعنى المفقود لهذا الفن المعماري الذي يمثل لقاءً غابراً للفنون ويجسد حقيقة الحرية لشعب يعبر عن فكره عبر الحجر وأبعد من ذلك، فقد أراد البحث عن الاندماج الكامل بين فن العمارة كأساس وفكرة وبين الكتابة كدعامة وصورة «فالأساس والصورة لا يتجزأن هما كالدم واللحم» هكذا يقول في مؤلفه «وليم شكسبير» فكل شيء محدد لديه بهذا الالتحام بين الشكل والمضمون في الرواية: بناء الحبكة العلاقة بين الشخصيات والأمكنة وأخيراً الأسلوب الأدبي ذاته فالروائي يومئ عبر الكتابة لفن العمارة جامعاً بود بين فنين، معيداً إلى بساط البحث الثناءوية بينهما.
ويختم بولين غيار بالقول: «اليوم وحضارة الكتابة في ذروتها بفضل الانترنيت التي تنقل الفكر بطرق أسرع بكثير من الكتاب بل بشكل فوري لكن هل هذه السرعة هي الخدمة الأفضل التي نقدمها إلى العقل؟ وأين السرعة التي واجهت بها حكومتنا الحدث من أجل إعادة بناء نوتردام؟ أليس هناك ما يدعو إلى الشك والريبة؟ نوتردام الشخصية الرئيسية لروايتنا الوطنية هي اليوم البطلة الدرامية لهوية فرنسية مشوهة علينا أن نستمد من الأدب والفكر بعض الوصفات لتمويه أو تلطيف الانهيار الأخلاقي لحضارتنا، نتمنى أن يحمل إلينا هذا التدمير الأخلاقي علاجاً يأخذ شكلاً رمزياً أوليس في ذلك فن قراءة الإشارات؟
ففي الوقت الذي تتردد فيه كلمة «إعادة بناء» كل يوم على شفاه الجميع يجب أن يكون سلاحنا لإعادة البناء الجماعي هو الحب واحترام كل ما هو مقدس في زمن يتواطأ فيه الكثيرون لتدمير التراث وحضارات العالم.
هذا وكان جان ماري لوبين الرئيس السابق لحزب الجبهة الوطنية اعتبر أن حريق نوتردام هو فعل إجرامي حيث قال خلال مشاركته في حفل إحياء ذكرى جان دارك في الأول من أيار الحالي: قد تكون هذه الكارثة من فعل أحد الأجهزة دون أن يذكر اسمها فالحريق لا يمكن أن يحدث مصادفة ويحرق أعمدة وجسوراً ضخمة عمرها سبعمئة عام فهذا الحريق يتجاوز فعل أشخاص إلى منظمات وما حصل يجب أن يكون تحذيراً لنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن