مشكلة توزيع الثروات والدخول في دراسة جديدة لـ«مداد» … 67 بالمئة من المجتمع السوري يعيشون على الرواتب و3.7 بالمئة رجال أعمال و 29.3 يعملون لحسابهم الخاص
| الوطن
يواجه الاقتصاد السوريُّ أنواعاً مختلفة من التحديات بعد ثماني سنوات من الحرب التي يمكن أن تُفضي إلى أزمات وكوارث كبرى، إذا لم تُعالج بشكل منهجيّ ومبرمج، ولعل أهم تلك التحديات، بل التحدي الأخطر الذي يواجه الاقتصاد والمجتمع السوري حالياً، وفي مرحلة ما بعد الحرب، هو التفاوت الصارخ في توزيع الثروات والدخول.
هذا ما عبرّ عنه استاذ الاقتصاد في جامعة دمشق الدكتور رسلان خضور في دراسة له نشرها مركز دمشق للأبحاث والدراسات منذ أيام، بعنوان «مشكلة توزيع الثروات والدخول: تحدٍّ يواجه الاقتصاد السوري».
خضور بيّن أن التفاوت الكبير في التوزيع وعدم الإنصاف يعدُّ واحداً من أهم الأسباب التي تجعل المواطنين أقل ثقة ببعضهم بعضاً، وأقل ثقة بالحكومة، وواحداً من معيقات النمو الاقتصادي، وإحدى قنوات إعادة بناء الثقة هي الإنصاف في التوزيع، منوهاً بأن الحرب والحصار والإجراءات القسرية أحادية الجانب أدت إلى تزايد نسبة الفقر وتراجع حجم الطبقة الوسطى في سورية، لكن ليست الحرب وحدها السبب في ذلك؛ بل يكمن السبب في التوزيع، وفي كيفية استخدام ما هو متاح من موارد.
تداعيات الحرب والسياسات الاقتصادية
إن الحرب وتداعياتها والسياسات الاقتصادية في مرحلة ما قبل الحرب أدت إلى زيادة حدة التفاوت، وتراجع العبء الضريبي إلى مستويات قياسية، بفعل التهرب الضريبي وانتشار اقتصاد الظلّ، وليتحمل أصحاب الرواتب والأجور عبئاً ضريبياً أعلى مقارنة بأشكال الدخول الأخرى، وتراجعت حصة الرواتب والأجور من الدخل القومي، لتصل إلى حدود 20 بالمئة، وهذه نسبة متدنية جداً.
وبحسب دراسة خضور، يترتب على زيادة حدّة التفاوت في التوزيع مجموعة من التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، منها أن استمرار التفاوت الحاد في التوزيع يشكل خطراً، ليس فقط على استقرار الاقتصاد الكلي، بل على النمو الاقتصادي، كما لا يؤدي النمو الاقتصادي المرتفع بالضرورة أو بشكل تلقائي إلى نتائج أفضل في التوزيع.
وأدت حدة الاستقطاب في التوزيع إلى تراجع حجم ودور الطبقة الوسطى، تحديداً في سنوات الحرب، كما تثبت الوقائعُ كافةً أن للتفاوت الكبير في توزيع الثروات والدخول دوراً مهماً في عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
ورأى خضور أن هناك مجموعة من الإجراءات والسياسات على المستوى القصير، وعلى المستويين المتوسط والطويل يمكن أن تسهم في تخفيف حدة التفاوت في التوزيع، منها الإنصاف في إتاحة الفرص، عبر مجموعة إجراءات تتعلق بتحسين سبل العيش للشرائح الهشة والضعيفة اقتصادياً في المجتمع؛ ذلك بتعزيز الفرص الاقتصادية، ومساعدة الناس على خلق فرص العمل المباشرة، والمزيد من الإنصاف والمساواة في الحصول على الخدمات العامة.
هذا، ومن مهام السياسة العامة للدولة، ومن مهام الحكومة وواجباتها تأمين الفرص وسبل العيش للفئات المحرومة، وليس بالضرورة أن تقوم الحكومة بخلق فرص العمل بشكل مباشر، بل عن طريق برامج التمكين الاقتصاديّ للفئات المهمشة والفقيرة، وبوساطة مساعدة الناس على خلق فرص عملهم، وتحفيزهم وتشجيعهم على العمل لحسابهم الخاص وإنشاء مشاريعهم الخاصة، وبوضع برامج التدريب والتأهيل على مهارات الأعمال، وبرامج التمويل الاجتماعي، والمساعدة في التمويل للمشاريع الصغيرة و المتناهية الصغر، وتوسيع إمكانيات الحصول على التمويل بشكل منصف، وهذا يتطلب زيادة الاستثمار في مشروعات البنية التحتية وتقليص القواعد التنظيمية المعيقة للاستثمار، وزيادة التحويلات التي تساعد الفقراء على توليد الدخل.
ومن السياسات أيضاً الطلب المحلي الذي يقود النمو، إذ يصعب أن يحافظ الاقتصاد السوريّ على توازنه، إلا إذا كان هناك طلب قادر على استيعاب السلع والخدمات المُنتَجة، وهذا يتطلب، بالدرجة الأولى، نمو الطلب المحلي، ونمو الطلب المحلي مرهون بالإنصاف في توزيع الثروات والدخول.
وفي إجراءات الأمد القصير، اقترح خضور رفع الحد الأدنى للرواتب وللأجور، بحيث لا يقل عن 40 بالمئة من متوسط الأجور في كل القطاعات، وجعل التعويضات المختلفة للعاملين على أساس الراتب الحالي، وليس على أساس راتب 2013، أي إلغاء المادة رقم 7 من المرسوم التشريعي 38 لعام 2013، ورفع الحد الأدنى من الراتب المعفى من ضريبة الرواتب والأجور ليصبح 30 ألفاً، بالإضافة إلى رفع التعويض العائلي عن الأطفال ليصل عشرة أضعاف التعويض الحالي.
وفي الأمد المتوسط والطويل، اقترح خضور تصحيح هيكل سوق العمل، لناحية زيادة حصة العاملين بأجر من الدخلِ القوميِّ، والعمل ضمن خطة طويلة الأمد لمدة عشر سنوات أو أكثر، يكون هدفها زيادة حصة دخول العمل (الرواتب والأجور) من الدخل القومي، لتصل ما بين 40 و50 بالمئة من الدخل القومي، عبر قنوات التوزيع الأولي للدخل، وعبر قنوات إعادة التوزيع.
إنَّ رفاهية المجتمع السوري تتوقف على مستوى دخول العاملين بأجر في المقام الأول، كون العاملين بأجر يشكلون الغالبية العظمى من أفراد المجتمع السوري 67 بالمئة، وبالتالي فإن تنمية هذه الدخول يُفترض أن يكون الإسهام الجوهريّ للسياسات الاقتصادية في السنوات القادمة.
رفع الأجور والأسعار
لفت خضور إلى أن وسطي الرواتب والأجور في القطاع الحكومي والقطاع العام الاقتصادي يقدر بحدود 40 – 45 ألف ليرة شهرياً، ويبلغ الوسطي في القطاع الخاص بحدود 65 – 70 ألف ليرة شهرياً، مبيناً أن هناك تراجعاً مريعاً في الدخول الحقيقية لأصحاب الرواتب والأجور منذ العام 2011، بالمقابل هناك زيادة حقيقية في دخول الملكيّة وفي الأرباح الحقيقية، إذ تبلغ نسبة العاملين بأجر من إجمالي عدد المشتغلين 66.5 بالمئة، ونسبة أصحاب الأعمال 3.7 بالمئة ونسبة العاملين لحسابهم الخاص 29.8 بالمئة، أي أنَّ العاملين بأجر يشكلون الغالبية العظمى ممن يُعوّل عليهم شراء السلع والخدمات المُنتجة.
وتشكل الأجور في قطاع الأعمال العام (المؤسسات الحكومية ذات الطابع الاقتصادي) بحدود 4 بالمئة وسطياً من إجمالي بنود الإنفاق الجاري، وتبلغ هذه النسبة في قطاع الأعمال الخاص بحدود 10 بالمئة فقط.
قد يتسبب رفع الأجور في زيادة التكاليف، وبالتالي ارتفاع الأسعار، هذا صحيح ولكن الأجور لا تشكل حالياً سوى 20 بالمئة من تكاليف السلع والخدمات المنتجة على أبعد تقدير، وسعر أي منتج لا يتضمن الأجور فقط، لذلك حتى إذا زادت الأجور 50 بالمئة، فهذا يعني أن الأسعار يمكن أن ترتفع بمقدار 10 بالمئة فقط، هذا يعني سيبقى فائض لدى العاملين بأجر للإنفاق على السلع والخدمات، وهذه الزيادة في الإنفاق هي، التي تنشط عملية الإنتاج ويمكن أن تخلق وظائف جديدة وتزيد معدلات النمو.
اقتصاد الظل
كان حجم اقتصاد الظل في سورية، وسطياً، قبل الحرب بحدود 19.2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 1999-2007، بحسب دراسة للبنك الدولي نُشرت عام 2010، إلا أنه وصل إلى أرقامٍ قياسية في ظل الحرب، ورغم صعوبة تقديره، وبخاصّة في ظل الحروب.
حاول خضور تقدير حجم اقتصاد الظل في العام 2016 بطريقة مبسطة تعتمد على مؤشر واحد، هو التهرب الضريبي، كإحدى الطرائق المعتمدة في تقدير حجم اقتصاد الظل، آخذين بالحسبان حجم الاقتصاد السوري المقدر في ذلك العام، والفارق بين ما يجب أن يدفع من ضرائب وما دفع فعلاً في ذلك العام، فتبين أن حجم اقتصاد الظل بأشكاله الثلاثة، يبلغ بحدود 78 بالمئة من حجم الاقتصاد السوريّ في عام 2016.
طبعاً هذه تقديرات أولية، لكنها تبقى نسبة مرتفعة جداً، وهي أحد أسباب تفاقم حدة التفاوت في التوزيع في العقد المنصرم.