قضايا وآراء

قراءة في العلاقات الإيرانية السورية من منظور جديد

| أبو الفضل صالحي نيا - المستشار الثقافي لسفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في سورية

منذ أن ترك آباؤنا العلم والمعرفة والبحث للكشف عن أسرار العالم والتعرف على قوانينه بدأ مشوار تخلُّف وتقهقر مجتمعاتنا على حين كانت أوروبا تسعى إلى الخروج من ظلمات القرون الوسطى بعد أن شرع أبناؤها يتلقفون آخر ما توصلت إليه حضارتنا من معارف وعلوم وتقنيات ليُنشِئوا على أساسها حضارة متطورة لهم ويشكّلوا ما يُسمى اليوم بـ«العالم الأول» الذي ينتج كلَّ شيء على حين إننا أصبحنا نستهلك كلَّ ما ينتجونه ويُروِّجون له حتى أصبحنا نُدعى بـ«العالم الثالث» الذي يُنظر إليه من قِبَلِهم باستعلاء وفوقية فهم متقدمون علينا في مجالات العلم والإبداع والمعرفة كافة، فغدوا – نتيجة هزيمتنا النفسية – أسيادَ العالم ينتجون كلَّ شيء ونحن نستهلك ما ينتجونه ويسوِّقون له حتى في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية بحيث أصبحنا ندرس ونُحلِّل واقعنا الاجتماعي والنفسي والاقتصادي و.. من خلال اعتمادنا على ما نتلقَّفه من نظريات تمَّت صياغتها في الغرب لنقوم بتقديم الحلول على أساسها لما تعانيه مجتمعاتنا من مشكلات على مستوى العائلة والمدرسة والجامعة ما أوجد أوضاعاً مجتمعية لا نُحسد عليها لأن نظرياتهم التي استهلكناها عن غير وعيٍ تمَّ وضعها لمعالجة مشكلات شعوبهم دون أن يأخذوا بالحسبان خصوصيات مجتمعاتنا وثقافتها التي تنظم الحياة على مستوى الفرد والعائلة والمجتمع، تلك الثقافة المتجذرة في حضارتنا المستمدة من عمق التاريخ، فليس بالضرورة أن تنجح الحلول التي تعتمد على نظرياتهم عندنا حتى لو أعطت بعض النجاحات في مجتمعاتهم، فهناك الكثير من الأمثلة التي تُثبت ما ذهبنا إليه، منها على سبيل المثال الحلول التي تقترحها المؤسسات الدولية الاقتصادية والمالية لحل الأزمات الاقتصادية لكثير من دول العالم الثالث، فقد زاد الطين بلّة وتعقدت الأمور والمشكلات في تلك البلدان التي أخذت بهذه التوصيات.
هذه التبعية العمياء للغرب يمكن أن نلحظها في نمط تحليلنا لأسباب ودوافع وأهداف التحولات التي بدأت في منطقتنا من خلال تناول هذه الأمور اعتماداً على نظريات العلوم السياسية الغربية حيث هناك نظرية المصالح الوطنية التي تسيطر على ذهنيتنا دون أن نفكر بأن علينا أن ننظر إلى الموضوع برؤية ذاتية تأخذ بالحسبان خصوصيات مجتمعاتنا.
إن نظريات العلوم السياسية والعلاقات الدولية الغربية مبنية على ثوابت عندهم هي غريبة عن حضارتنا وثقافتنا، ومع ذلك قبلناها في مجملها من دون التفكير أو وعي، فمثلاً مقولة «لا مكان للأخلاق في السياسة» أو «في عالم السياسة أو في علاقات الدول مع بعضها البعض ليس هناك مكان للصداقات الدائمة».
لم نفكر، يا للأسف، للحظة واحدة أن هذه النظريات خاطئة لم تُبْنَ على أسس صحيحة لأن في حضارتنا الإنسانية وثقافتنا المعنوية ومدارسنا الفكرية أخلاق في السياسة بل يجب أن تكون سياستنا مؤطرة بالأخلاق، إن مكتبة حضارتنا غنية بالكتب والمؤلفات التي تتحدث عن الأخلاق في السياسة على حين إن حضارتهم بُنيت على القتل والإبادة والاحتلال واغتصاب حقوق الشعوب الأخرى من أجل مصالحهم المادية المزعومة ما جعل علماؤهم يُنظِّرون للاأخلاقية في السياسة والحكم والعلاقات الدولية.
العلاقات الإيرانية السورية، بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، تقدم نموذجاً حيّاً عن السياسة الممزوجة بالقيم والأخلاق في العلاقات الدولية.
لقد رفضت الجمهورية العربية السورية الكثير من الإغراءات وتحملت الكثير من الضغوطات بسبب وقوفها إلى جانب الموقف الإيراني العادل، فمنعت بذلك تشكيل جبهة عربية موحّدة ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية على أساس قومي عنصري أو مذهبي متعصب، على حين كان يبدو أن المصلحة المادية لسورية كانت تقتضي التصرف بشكل مغاير، كذلك الأمر حين هبّت إيران بكل ما تملك لمساعدة الجمهورية العربية السورية في أزمتها رغم كل ما تواجهه إيران من حصار اقتصادي وعقوبات دولية خانقة في بعض الأحيان فقدمت أغلى ما عندها من دعم لوجستي واقتصادي وسياسي إلى درجة اختلاط دماء خيرة قادتها وشبابها بدماء أبطال الجيش العربي السوري والقوات الرديفة دفاعاً عن عزّة سورية وكرامتها ومواقفها المبدئية، إن إيران لم تقف هذه المواقف الأخوية الرائعة إلى جانب شقيقتها سورية بسبب تعرُّض بعض مصالحها المادية والوطنية للخطر في سورية بل أقدمت على ما أقدمت عليه بدافع مبدئي وأخلاقي حيث الواجب يفرض عليها الوقوف إلى جانب أصدقائها وشركائها الإستراتيجيين في الأزمات والمحن، لم تفكر إيران على الإطلاق قبل شروعها بالمساعدة بما ستحصل عليه من غنائم وأرباح مادية، بل قدّمت ما قدَّمته بدافع أخوي من دون قيد أو شرط، لذا يخطئ كل من يسعى إلى أن يحلل مرحلة بعد الانتصار العسكري في سورية من منظور النظريات الغربية السائدة بالبحث عن مصالح إيران المادية في سورية وعبثاً يبدي قلقه حول مزاعم مصادرة القرار الوطني أو استقلال البلد السياسي أو حول مستقبل البلد في ظل تنافس إيراني روسي مزعوم للحصول على أكبر قدر ممكن من العقود والصفقات الاقتصادية والتجارية.
طبعاً لا أدّعي أنه ليس هناك مصلحة لإيران في ما قامت به حيال مساعدة سورية في أزمتها، بل أقول إن المصلحة المادية لم تكن الدافع والسبب وراء ذلك، بل كان الدافع أخلاقياً ومبدئياً لأنه مهما ستحصل عليه من عقود اقتصادية لن يعوض الدماء الطاهرة لقادتها وشبابها التي روت أرض سورية الشقيقة لتزهر ورود الحرية والاستقلال والكرامة.
يجب علينا أن نتحرر من قفص التفكير بالمنطق المستورد من الغرب ليس فقط في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بل في كل فرع من فروع العلوم الإنسانية، فمثلاً هناك الكثير من المشكلات الاجتماعية، التي حصلت وستحصل نتيجة هذه الحرب الدولية المسعورة والطويلة على سورية وشعبها، تحتاج إلى حلول مبنية على علم النفس وعلم الاجتماع والصحّة والثقافة والاقتصاد، علينا من أجل نجاحنا في حل هذه المشكلات الاعتماد على نظريات، في هذا المجال، تخصّنا مستمدة من حضارتنا وثقافتنا التي تتناسب مع خصوصيات مجتمعاتنا، هذا هو الطريق الصواب الذي سيفتح الطريق إلى إحياء حضارتنا العريقة التي قدّمها آباؤنا وأجدادنا إلى العالم والتي اعتمد عليها الغرب في كثير من جوانبها في إنتاجه لحضارته، بإمكاننا فعلاً أن نعيد الكرّة بإرادتنا والاعتماد على ذاتنا، والمستقبل أمامنا واعدٌ وعلينا ألا نضيع الفرصة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن