ثقافة وفن

نشأة التقويم والحساب في حضارات الشرق … القمر كان صديقاً للإنسان يؤنس الوحشة ويبدد الخوف .. التمزق السياسي انعكس على تسمية الشهور فلكلّ حاضرة إله خاص يسمي شهورها

| احمد محمد السح

يعرف الكثيرون اليوم أن التقويم هو تقويم شمسي أو قمري، أي إما معتمد على حسابات حركة الشمس أو حسابات حركة القمر، والحقيقة أن التقويم الشمسي مرتبط بتبدلات مسار الشمس في السماء، وهو بهذا مرتبط بمفهوم اليوم، بالدرجة الأولى ومن ثم تبدلات الفصول (اقتراب الشمس من الأرض وابتعادها، احتجابها وراء الغيم في الشتاء أو ظهورها الساطع في الصيف) أما تبدلات القمر فهي تبدلات شهرية، وتغيرات شكله -تزايد ونقصان حجمه- حد الاختفاء تكون أسبوعية. هذه المعلومات البسيطة اليوم، التي يمكن أن تلقن لطلاب المدارس الابتدائية، هي أسئلة خاض غمارها تكوّن العقل البشري منذ أن رفع رأسه وبدأ يراقب السماء ومنذ أن فرضت السماء عليه تبدلاتها، فصار يتحرك وفقاً للمعطيات التي يقدمها له الطقس وتبدلاته، وتقلبات الليل والنهار والصيف والشتاء، لكن هذه المعلومات البدئية لم تشكل عند الإنسان فهماً تقسيمياً للزمن، لأن الزمن هو مفهوم حدده الإنسان لنفسه، وربط تقسيماته بالطبيعة ومنعكساتها على حياته، فهذه المفاهيم المجردة لم تكن لتتوضح صورتها في ذهن إنسان لم يكن هدفه سوى أن يؤمن طعامه، وينام في مغارة أو كهف أو على غصن شجرة، أو يحتمي من الوحوش والحيوانات المفترسة وهو ما يسميه المؤرخون مرحلة «الصيد والالتقاط» فلا دلائل أبداً على أن الإنسان ربط حياته بمفهوم الزمن.

الزمن تصور الإنسان
يعرّف القديس أوغسطين (354- 430م) الزمن فيقول: «إن الزمن هو أكثر من الشيء فهو بعد الوعي الذي يتوجه انطلاقاً من الحاضر نحو المستقبل في الانتظار، ونحو الماضي في التذكر، ونحو الحاضر في الانتباه» فالزمن هذا التصور الذي أضافه الإنسان إلى حياته تبدّى بشكل واضح حين انتقل من حياة «الصيد والالتقاط» أي حياة التنقل إلى حياة «الاستقرار» حين اكتشف الزراعة، وبدأ ينتظر المحصول والمواسم، من المؤكد أن اكتشاف الزراعة بدأ يخلق عند الإنسان حالة الانتظار ومن المؤكد أن بذوراً لم تنتش وفشلت زراعته؛ لكن النجاح الأول خلق عنده الحاجة لانتظار فرح النجاح، هذا الانتظار بدأ يقيسه، فكان لابد من تقسيمات يقيس على أساسها، حيث تؤكد الدراسات أن هذا الأمر يعود إلى 8000 سنة قبل الميلاد أي نحو عشرة آلاف سنة من اليوم، وقد وجد ذلك في مواقع متعددة من الشرق وخاصة في بلاد العراق وسورية، فهنا كانت الحضارة الأولى، فهنا عرفت الزراعة وتشكل القرى ومن ثم الحواضر والمدن. أما القياس فهو إن كان بناء على الشمس وعلى القمر، فمن الواضح أن القمر كان صديقاً للإنسان أكثر لأن تبدلاته أوضح، وهو يؤنس وحشة الليل، ويبدد الخوف، الخوف رفيق البشرية السرمدي، فالليل يسمى عند العرب ابن كفر، والشمس تسمى ذكاء، فالذكاء من البياض والكفر من الغطاء، والليل كافر لأنه يغطي بسواده كل شيء، وفي الأراجيز العربية يقال: (فوردت قبل انبلاج الفجر وابن ذكاءٍ في كفرِ) وابن ذكاء هو الفجر، النائم والمغطى بسواد الليل.

في الحضارات القديمة
تطورت الحضارات وتشكلت المدن والأقدم في المفهوم الحضاري هم السلالات السومرية الأولى (2900- 2350 ق. م) هذه السلالات شكلت مدناً متناحرة ومتحاربة ومتصارعة، لكنها بنت الزقورات (المعابد المدرجة العالية) وأوجدت التقويم القمري باثني عشر شهراً لكل شهر تسعة وعشرون يوماً أو ثلاثون حسب رؤيتهم للهلال أول كل شهر، وكانوا يستخدمون الزقورات لهذا الالتماس الشهري، لكنهم في هذه المرحلة لم يسموا الأشهر، فتجد الأسماء متضاربة ومتناقضة، بسبب التمزق السياسي، الذي انعكس تمزقاً دينياً فكل حاضرة كان لها الإله المقدس الخاص بها، وكانت تشتق الأسماء من هذه المقدسات، يرد على لسان ملك مملكة لارسا (إحدى المدن السومرية القديمة 1822- 1762 ق. م) قوله: «نانا هو الذي يحدد الشهور والذي يكمل السنة» ونانا هو الإله القمر، والذي عده السومريون الإله الأب للشمس، وهذا يعني أنهم اهتموا بمرتبته أكثر، والسبب الرئيس في تفسير ذلك هو وراثة فكرة تبديد الخوف في الليل وسهولة التقلبات، أما ظهور الشمس على أهميته إلا أن رتابة ظهورها اليومية، وعدم حدوث تغيرات في شكلها، فالوعي كان حسياً شكلياً عند إنسان تلك الحواضر لذا بدا القمر هو الإله المقدس في أغلب تلك المدن، وبناءً على تغيراته، عرفوا الأسبوع فالقمر يتغير شكله كل سبعة أيام، ولذا فقد عرفوا احتفالاً أسبوعياً بهذا التغير اسمه عيد «الإش – إش» أشبه ما يكون بالعطلة الأسبوعية المرتبطة بأيام الشهر الأول والرابع عشر، والحادي والعشرين والثامن والعشرين، والسومريون أنفسهم عرفوا السنة الكبيسة فأضافوا شهراً كل ثلاث سنوات هذا الشهر بثلاثين يوماً، سموها الكبيس. الأكاديون الذين ورثوا التراث السومري ووحدوا المدن السومرية والأكادية وتوسعوا فيها، عرفوا أسماء أوضح للأشهر – علماً أن بعض الكتب التاريخية تقول إنه لم تصلنا الأسماء الكاملة للأشهر الأكادية- إلا أن البعض يورد أسماء تتشابه مع الأسماء التي نعرفها اليوم في شرقنا وهي (نيسانو – أيارو – سيمانو – دوزو – آبو – إلولو – تشريتو – أراخسمنا – كيسليمو –طيبيتو –شباطو – آدّارو) من السهل معرفة الأسماء التي ورثناها عنهم، ولكن يلاحظ أيضاً أن السنة عند السومريين وورثتهم الأكاديين كانت تبدأ بشهر نيسان (نيسانو) الذي يعني اسمه بالأكادية (شهر ساكن المعبد) أما أيارو فيعني شهر إخراج الثيران، وآبو شهر إشعال النار، وآدارو شهر الحبوب، وسواها أسماء غير مؤكد تفسيرها والقصد منها فلا أعرف معنى أن يكون شهر شباط (شباطو) شهر البر مع أنه لا ارتباط بين شباط والقمح، في المعايير الزراعية.

البابليون والزمن
جاء البابليون بعد الأكاديين بزمن وقدموا تجربتهم في الحسابات، هذا الحساب الذي قدم إليه البابليون الربط المتكامل مع السحر والشعوذة الذي كان منتشراً في بابل، وكانوا أحوج ما كانوا لينطلقوا في أعمالهم السحرية باعتباراتٍ تتعلق بغياهب السماء والفلك وتحركات النجوم، ولقد اشتغل البابليون على هذا الأمر في كتاباتهم ونصوصهم المقدسة التي تعتبر اليوم أساطير أدبية، ومنها ما يرد في «أسطورة خلق الكون» في اللوح الخامس:
«صمم منصات للآلهة العظماء
أما بالنسبة للنجوم، فقد وضع لكلٍّ منها
كوكباتٍ تقابلها
وعين السنة وحدد أقسامها
ووزع حصص ثلاثة أنجمٍ لكلٍ منها
والأشهر الاثني عشر
وبعد أن وضع خططاً لأيام السنة
أسس منصة نجم القطب «نبرو» ليحدد مسيرته
كيلا يخطئ أي منها أو يتيه»
المقصود بهذا المصمم هو الإله مردوك، بطل أسطورة الخلق، وهنا نميز سمتين أن البابليين اعتبروا أن صناعة التقويم ليس صنعة بشرية إنما هو تقسيم إلهي وضعوه تحت سيطرة الإله مردوك وهو مرتبط ببداية الخلق، وعند البابليين بدأت السنة بشهر نيسان مع بداية الربيع وأقاموا احتفالات ضخمة لهذا الأمر سبقت أي احتفالات تقام في العالم اليوم بالتقويم الميلادي الغريغوري، وهم من اعتبروا يوم السبت يوماً للشر، وعليه يجب السبات فيه، وعدم العمل لأنه يومٌ للراحة وعنهم ورث اليهود هذا الطقس وصارت له التفسيرات اليهودية المعروفة.
يعتبر الآشوريون مع البابليين ورثة الأكاديين وهذا الربط مرتبط باللغة فحسب، فالآشورية والبابلية لهجتان متفرعتان عن الأكادية، وعليه فإن هذه الوراثة شملت تداخل العلوم والمعارف بينهم إلا أن الآشوريين انطلقوا بخبراتهم الذاتية قبل أن يمتد التداخل في الحكم بينهم وبين أقوام الجنوب، حتى آل الحكم إليهم، فلقد اعتمدوا في التقويم على نجم «الشعرى» الذي يظهر كل ثلاث سنوات مرة ومع ظهوره ارتبط إضافة شهر ثالث عشر للسنة سموه إذا الثاني، وكان أسبوعهم أخموساً مؤلفا من خمسة أيام فقط، وهذا يشير إلى أنه م ابتكروا تقويمهم الخاص وعلومهم الفلكية وأطلقوا للأشهر أسماء مرتبطة بالعمل الزراعي وبالتالي لم ينقلوا الحضارة إنما ابتكروا فهمهم الخاص للحسابات والتقويم وبعدها قاموا بتعديلات عليها.
يصعب جمع سيرة التقويم والزمن في هذه المنطقة بشكل مكثف، وهنا اكتفيت بالمنطلق (سومري – بابلي – آشوري) لكن التقويم السرياني والآرامي، ومن ثم التقويم الفرعوني المصري وصولاً للروماني واليوناني حتى الغريغوري، كلها تحتاج إلى الكثير من التدقيق فما نعرفه اليوم من تقويمات منتشرة في العالم واختلافاتها كلها لها جذور تاريخية وكلها تطرح جدلية علاقة الإنسان بالزمن والحياة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن