ثقافة وفن

مسرح خيال الظلّ شخوص أسست للنهضة المسرحية … من أواسط القرن التاسع عشر حتى أربعينيات القرن العشرين شهد نهضته في سورية

| منير الكيال

إذا كان المخايل (الكركوزاتي) يقوم بتحريك شخوص مسرح الظِلّ وراء الشاشة (الخيمة)، ويحكي على لسان الشخوص ما يتطلبه الحوار، مع الحفاظ على لَغْوَة ولكنَة هذه الشخوص، بالغاً ما بلغ عددها في الفصل (البابة).. أمكن لنا أن نقول: إن الكركوزاتية أساطين هذا المسرح.
وقد ساعد على ذلك نشوء الكركوزاتي بالبيئة الشعبية والتي جعلته قادراً على عكس حياة الناس السلبي منها والإيجابي، فتراه يُفلسف حياة الناس في عروضه، ويصوّر تجاربهم ومشاريعهم. ولعل أعجب ما في ذلك، قدرته على تغيير وتيرة صوته وفقاً لمتطلبات أدوار الشخوص المشاركة في الفصل (البابة) الذي يقدّمه حتى إنه كان من الكركوزاتية من يستطيع أن يقلّد أصوات عشرة شخوص مشاركة بفصل واحد، أكان ذلك بكل نبراتها فضلاً عن قيامه بتحريك الشخوص في الفصل وأساليب على الشاشة.
فالكركوزاتي في الفصل الذي يقدمه (البابة) عندما يتناول عينة من المجتمع بالنقد والتجريح والسخرية إنما يقوم بذلك وصولاً إلى استخلاص العظة المطلوبة، على شكل حوار بين شخوص الفصل فضلاً عن ذلك فإن الكراكوزاتي قد يشرك في ذلك المتفرجين.
وقد يخرج الكركوزاتي عن مضمون الفصل (البابة) الذي قدمه، ليشارك الجمهور في حياتهم اليومية مما يحلّ بهم من أحداث، أو ما يسعدهم من أمور، فضلاً عن ذلك فإن الكركوزاتي في أغلب الأحيان، قد يقوم بدور الصحافة في أيامنا، للوقوف على كل كبيرة وصغيرة يعيشها الناس، كنت تراه يدخل المحكمة ويسترق السمع، ويتابع الأحداث في الأسواق والمقاهي، ويضمّن ذلك في فصوله، أو يفرد لها فصلاً خاصاً يتناوله بالعرض والمعالجة والنقد والتجريح والتحليل، واستخلاص العبر، ولذلك كان على الكركوزاتي أن يكتب على نفسه تعهداً بعدم التعرض للسلطة حتى لا يتعرض للعنت أو السجن.
وقد عرفت سورية بشكل عام ودمشق بشكل خاص في أواسط القرن التاسع عشر، وحتى أواخر العقد الرابع من القرن العشرين، عدداً من عباقرة مسرح الظل، كان منهم باللاذقية الحاج مرعي اللاذقاني، الذي توفّي عن عمر يناهز المئة وعشر سنوات، وكان وراء خيمته وكأنه ابن عشرين عاماً، كما عرف الساحل العربي السوري وبخاصة طرطوس المبدع أبو عبد اللطيف معماري، وعرفت إدلب الكركوزاتي محمد هدهد، وأبو الخير السباعي في حمص، كما كان في طرابلس الشام إبراهيم المحمود الملقب بأمير الكركوزاتية.
أما في مدينة دمشق فقد توارث آل حبيب فن المخايلة كابراً عن كابر، وأباً عند جدّ، وكان رائد هذا الفن الكركوزاتي علي حبيب، وهو من العقيبة، وتعود ولادته إلى مطلع القرن التاسع عشر، وتوفي في العقد الثاني من القرن العشرين، وقد ترعرع علي حبيب بهذا الحي وتلقى مبادئ القراءة والكتابة في الكتاتيب، وقد دفعه حبه لفن المخايلة إلى ممارسة المخايلة وساعده على ذلك، قوة ذاكرته على حفظ الأدوار والموشحات، كما ساعده نبوغه الموسيقي على توظيف ذلك لمسرح الظل، وقد ذاع شهرة علي حبيب حتى أصبحت على كل شفة، فعلي حبيب والحال هذه له بصمات واضحة في إعطاء مسرح الظل هوية ثابتة المعالم.
فضلاً عن ذلك، فقد نبغ من آل حبيب مخايلون عرفتهم دمشق، فكان لهم شأن في إعطاء هذا المسرح المكانة اللائقة، وكان منهم خالد وصالح. وعلي حبيب.
وقد تميز صالح في أسرته بنبوغه بفن المخايلة وشهد له أقرانه بذلك ورأى أن عمله في المخايلة رسالة يؤديها على لسان شخوص نحو أبناء جلدته وذلك بالنقد المباشر وغير المباشر لسلوك الناس وعلاقاتهم، وكان في ذلك يعتقد أن مسرح الظل يحاكي الغرائز البشرية فانحدروا به إلى مستوى الرعاع والسوقة، وأصحاب النفوس المريضة بمقولات بذيئة مبتذلة تخدش الحياء. فكان صالح أبرع المخايلين في عصره في تخليص مسرح الظل من ذلك التردي بأسلوبه اللبق البارع.
وساعده على ذلك جمهوره الذي لا يقبل مشاهدة تلك الترهات، كما ساعده في ذلك مطالعاته المتعددة الجوانب.
وإذا كان على المخايل أن يكون ذا صوت حسن ومعرفة موسيقية، لما يتطلب ذلك من القيام بالغناء، فقد كان صالح على ثقافة موسيقية عالية، لما كان عليه من سعة الخيال، وصفاء الذهن وبراعة في تأدية حوار الفصول على ألسنة الخوص ببراعة ما بعدها براعة.
وهذا النهج الذي كان عليه صالح أكسبه أصدقاء ومعارف يجلونه ويعترفون بفنه، ومن هؤلاء الطبيب سليم العجة، ومحمد سعيد الخياط ومحمد سالم، وأحمد الجندي، وكاظم الداغستاني، وأيضاً فخري البارودي ومحمد الأشمر وكذلك حسن الخراط.
وقد سبب لصالح، ميله الوطني، وأسلوبه في تصوير حياة الناس، ونقد الأخطاء لممارسات السلطة واتصاله برجالات الثورة السورية الكبرى، سبب له ذلك متاعب كثيرة، وبدأت تأخذ التعهدات والمواثيق عليه، بعدم التعرض للسلطة بالنقد، وأعقب تلك التهديدات ما ناله من وعيد وتهديد، ثم زجه بالسجن مرتين.
كانت عروض صالح تلقي القبول والاستجابة من جميع فئات الشعب، وكانت القيادات الوطنية، ترى بصالح صوتها الراوي بما يعبر صالح عن مشاعرهم وتطلعاتهم.
ومن ذلك ارتجاله باحتفال أقيم بساحة الجريد بسفح قاسيون بالمهاجرين المقطوعة التي أنشدها بمشاركة الجماهير:
نحنا فرحنا اليوم اليوم
وتهنينا اليوم اليوم
فرحنا اليوم وتهنينا
مجدنا عاد لينا
من فرحتنا غنينا
عالدوم عيني عالدوم
يا سورية نيالك
نلت اليوم استقلالك
بهمة أبطالك ورجالك
نلت الفخر عالعموم
فضلاً عن هذا كله، فهناك الكثير والعديد عن هذا المبدع، لا يتسع المجال لذكره.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن