قضايا وآراء

مثلث صراع لا يحتمل التسويات

| فارس الجيرودي

لم تسفر قمة العشرين في اليابان عن تسوية لأي من الصراعات والنزاعات المتأججة بين الشرق والغرب كما توقع كثير من المحللين، لكنها انتهت إلى تفاهمات ربط نزاع تهدف إلى ضبط التوترات والحد من تداعياتها، خصوصاً فيما يتعلق بالصراع الكبير الذي يُنتظر منه أن يرسم شكل التوازنات الدولية في عالم الغد، الصراع بين العملاقين الاقتصاديين الصيني والأميركي، وهو النزاع الذي بدأت نيرانه تظهر من تحت الرماد مع دخول الرئيس الأميركي دونالد ترامب للبيت الأبيض، وتدشينه لما أصبح يسمى الحرب التجارية الأميركية ضد الصين، الدولة الناهضة التي تعهد ترامب بألا تتحول إلى القوة الاقتصادية الأعظم خلال ولايته التي يخطط لتجديدها.
ويبدو من تصريحات وسلوك الرئيس الأميركي قبل وخلال القمة أنه قرر الأخذ بنصيحة الدبلوماسي الأشهر في التاريخ الحديث هنري كسينجر الذي انتقد في مقابلة مع الفاينانشيال تايمز الأميركية في تموز 2018 تردي العلاقات مع روسيا، داعياً إلى محاولة اجتذابها والعمل معها على احتواء الصين بدلاً من مواجهة البلدين معاً، مذكراً بالمناورة الدبلوماسية الأشهر التي قام بها خلال الحرب الباردة، والتي سميت إستراتيجية نيكسون حيث رتب كسينجر لاستغلال التوتر الحدودي بين الاتحاد السوفيتي والصين، فهندس عملية كسر الجليد في العلاقات الأميركية مع البلد الشيوعي، من خلال زيارة الرئيس الأميركي نيكسون إلى بكين مطلع السبعينيات، والتوقيع على اتفاقيات اقتصادية مهدت للانفتاح الاقتصادي بين البلدين، وهو ما ساعد على عزل الاتحاد السوفيتي، وسهل إسقاطه لاحقاً، لكنه في الوقت نفسه شكل فرصة استغلتها الصين جيدا، خصوصاً خلال عقد التسعينيات من أجل تحقيق صعودها الاقتصادي الصاروخي، بعدما فتحت الاتفاقيات التي وقعها نيكسون السوق الأميركية أمام منتجاتها، وسهلت تدفق الاستثمارات الغربية نحوها.
يدعو العجوز كسينجر اليوم لتطبيق «إستراتيجية نيكسون» لكن بشكل معكوس، من خلال العمل مع روسيا من أجل عزل الصين، وتضييق مجال المناورة أمامها على الساحة الدولية.
ترامب المتحرر من الضغوط التي مارسها عليه خصومه الداخليون بعد صدور تقرير مولر، الذي برأه عملياً من تهمة تلقي دعم روسي خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، تودد للرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال قمة اليابان، في وقت لم يسلم فيه أي من خصومه أو حتى حلفائه من التصريحات الهجومية والمتهكمة، التي استبق ترامب بها القمة.
لكن ما كان صالحاً في الماضي لا يبدو صالحاً اليوم فما الثمن الذي يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة لروسيا لتقنعها بفك تحالفها الإستراتيجي مع الصين؟
لقد أفسحت واشنطن للصين مكاناً مع مطلع السبعينيات في النظام الاقتصادي العالمي، على اعتبار أن الصين كانت بلداً متأخراً من الناحية التكنولوجية، ووفقاً للحساب الأميركي فإن هذا البلد سيتخصص في إنتاج السلع التي لا تحتاج لتكنولوجيا متقدمة، ما سيمد الأسواق الغربية بمنتجات رخيصة، ويشكل فرصة أمام المستثمرين الغربيين لتحقيق أرباح أكبر من خلال الاستثمار في اليد العاملة الصينية الرخيصة، على حين ستتحول السوق الصينية إلى مستورد للسلع الغربية العالية التقنية.
لكن الصين نجحت بالنتيجة في الخروج من القمقم الذي خُطط لها أن تبقى فيه، وذلك من خلال استثمار الثروة الناتجة من التصدير للأسواق الغربية، في تطوير بنية تكنولوجية متقدمة، وهو ما يبدو أن روسيا مؤهلة أكثر بكثير لتحقيق مثله لو منحت فرصة مماثلة، فروسيا تمتلك سلفاً إمكانيات تقنية متقدمة في العديد من المجالات العلمية، وسيؤدي أي تدفق للاستثمارات الغربية نحوها إلى صعود صاروخي للاقتصاد الروسي، فإذا كانت الصين احتاجت لثلاثة عقود من الانفتاح الاقتصادي الغربي عليها حتى تحقق معجزتها الاقتصادية، فقد لا تحتاج روسيا إلا لسنوات قليلة، وهي فرصة يستحيل على الغرب أن يمنحها لموسكو، الواقعة حتى اللحظة تحت طائلة عقوبات اقتصادية أميركية إثر دورها في الحربين السورية والأوكرانية.
من جهة أخرى فإن الشراكة الإستراتيجية التي نسقتها كل من الصين وروسيا خلال السنوات الماضية ضمن منظمة شنغهاي، تظهر وعي كل من البلدين للنيات الأميركية بالاستفراد بكل بلد منهما على حدة، بهدف تمديد عمر نظام الهيمنة الإمبريالي، الذي ظل الغرب يسيطر من خلاله على مقدرات العالم طوال القرون الثلاثة الأخيرة.
وعكس الانطباع السائد في الإعلام عن منظمة شنغهاي التي تشكل روسيا والصين قطبيها الأساسيين، فإنها ليست مجرد منظمة اقتصادية للتجارة الحرة فقط، بل هي منظمة سياسية أمنية اقتصادية، وهي مشروع موازٍ لحلف الناتو الغربي، لذلك رفضت المنظمة طلباً تركياً للانضمام إليها، على اعتبار أن تركيا عضو في حلف الناتو الذي تشكلت منظمة شنغهاي أصلاً لمواجهته، مشترطةً انسحاب تركيا من الناتو أولاً، على حين قبلت المنظمة إيران كعضو مراقب، وحققت نجاحاً مهماً في جمع كل من الجارين اللدودين باكستان والهند كعضوين كاملي العضوية فيها، ما يعكس الهدف الإستراتيجي الذي تخطط له شنغهاي: وهو إخراج النفوذ الأميركي من آسيا.
من جهة أخرى تعمل كل من بكين وموسكو على إقامة نظام اقتصادي مواز للنظام الاقتصادي العالمي الذي تتحكم واشنطن به، كما تتعاونان من خلال استثمار الصين مالياً في الصناعات العسكرية الروسية مقابل الحصول على التكنولوجيا العسكرية الروسية المتقدمة، وهو ما نتج عنه سلسلة أسلحة صينية متقدمة، أعلنت الصين عنها خلال السنوات القليلة الماضية دفعةً واحدة، على وقع توتر علاقاتها بواشنطن.
بالنسبة لنا في المنطقة العربية فإن انهيار نظام الأحادية القطبية الأميركي الذي سيطر على العالم منذ انتهاء الحرب الباردة وبروز قوى منافسة للقطب الأميركي يعتبران خبراً جيداً، لكن الخبر السيئ أن النظام العالمي الجديد لن تتضح معالمه إلا بعد المواجهة بين القوى العالمية الكبرى، وهي المواجهة التي يتوقع أن تكون بلادنا مسرحاً لها، وذلك بسبب احتوائها على أكبر مخزونات الطاقة التي ستحدد هوية من سيسيطر عليها ويحدد مستقبل الاقتصاد العالمي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن