الصفحة الأخيرة

التعليم العالي: عجز في مواجهة الكهولة؟

الأستاذ الدكتور نزير إبراهيم - رئيس الجامعة السورية الخاصة

يومياً يتقاعد المزيد من أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات السورية العامة بسبب السن. هذه سنّة الحياة الطبيعية وديدنها، ولكننا لم نعش حياة طبيعة خلال العقد الثاني من هذا القرن، فالحرب المجرمة التي استهدفت إنسان سورية أدت إلى هجرة الكثير من العقول من قطاع التعليم العالي (حدد وزير التعليم العالي النسبة بـ 25% خلال مؤتمر الجمعية البريطانية السورية الذي عقد في شباط الماضي، في حين حددت دراسة لمركز دمشق للأبحاث والدراسات “مداد” نسبة الفاقد في جامعتي دمشق وحلب إلى ما يزيد عن 40%.  هناك معضلة حقيقية لعدم توفر الأرقام الرسمية الدقيقة للمهتمين بدراسة قطاع التعليم العالي التي يتوجب على مؤسساته تقديمها للباحثين لأن الفائدة ستعود في النهاية على هذه المؤسسات ذاتها.

أدت الحرب أيضاً، بكل ملامحها الاقتصادية والإعلامية والنفسية، إلى عزوف مئات من المعيدين الموفدين عن العودة. الندرة القليلة جداً  ممن عاد (3-5 % تقديراً أولياً) يواجه عادة صدمة الإجراءات البيروقراطية الصاعقة لمعاملة التعيين، بما في ذلك إجراءات معادلة شهادات الدكتوراه حتى وإن كانت صادرة عن جامعات مثل أوكسفورد أو هارفرد أو السوربون، بل حتى وإن كانت صادرة عن جامعة دمشق! ناهيك أن تلك الاجراءات قد تستغرق ما يقارب السنتين في بعض الحالات. وفي كل الأحوال لم تزد أفضل نسب عودة المعيدين الموفدين في السنوات الذهبية (2001-2010) عن 75%.

في زمن السلم عادة ما تعوض مؤسسات التعليم العالي فاقد تقادم السن أو انتقال أعضاء الهيئة التدريسية بين الدول والجامعات من خلال خطط واضحة لبناء القدرات إما عبر إيفاد المعيدين أو مسابقات التعيين. غرض ضخ الدماء الجديدة من خلال المعيدين، ليس فقط تعويض الفاقد العمري ولكن من أجل التغذية المستمرة للكوادر البحثية والتدريسية ضماناً للاستدامة المؤسساتية وجودة التعليم وارتقائه المستمر إلى الحدود الدنيا، على الأقل، من المعايير الأكاديمية العالمية. أما مسابقات التعيين لأعضاء الهيئة التدريسية فغرضها سد الثغرات وهي عادة ما تجذب حملة الدكتوراه من الشريحة العمرية من 40-50 سنة.

خلال سنوات الحرب العجاف، عم الشح في ينابيع بناء القدرات وكاد يصل إلى حد الجفاف التام مما قد يخلق أزمة خانقة في منظومة التعليم العالي خلال العقدين القادمين إن لم تكن هناك مقاربات خلاقة وجريئة في إصلاح القطاع لذاته. لعل غياب تلك المقاربات يفسر تعاقب ستة وزراء على حقيبة التعليم العالي خلال سنوات الحرب. تظهر المؤشرات الأولية لدراسة قيد الانجاز ارتفاعاً مقلقاً في معدل كهولة أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات الحكومية حيث أن متوسط عمر أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات الحكومية يقارب 54 سنة. يصل هذا المتوسط إلى 65 في الجامعات الخاصة. وفي معظم الكليات تزيد نسبة من هم من مرتبة مدرس عن 50% من مجمل حملة الدكتوراه.  وهي نسبة مقبولة في الحالة الطبيعية عندما يكون متوسط أعمار المدرسين 40-45 عاماً (يتقاعد المدرس في سن 60 والأستاذ المساعد في سن 65 والأستاذ في سن 70). لكن هذه النسبة في حالة الأزمة مؤشر خطر يتوجب التعامل معه بجدية ورؤية استراتيجية خاصة إن أخذنا بعين الاعتبار أن متوسط عدد السنوات التي يستغرقها إعداد عضو الهيئة التدريسية من لحظة التعيين كمعيد حتى العودة من الايفاد يتراوح بين8-10 سنوات، وأن مسابقات التعيين كما أوضحنا لا تحل مسألة الكهولة، وأن الكلف الباهظة للإيفاد عامل احجام في مرحلة إعادة الإعمار.

لا يلمس العاملون في قطاع التعليم العالي حتى اليوم  وجود معطيات ملموسة وذات موثوقية من إدارة القطاع، وعبر سنوات الحرب، على أنها تتعاطى مع هذا الواقع من منطق استشراف الأزمة وتحضير الخطط والبدائل للتعاطي معها علماً بأنها منظومة تدير أحد أهم موارد رأس المال البشري السوري، وهو ذات رأس المال الذي نعول عليه في مختلف مناحي إعادة الاعمار، اقتصادياً وثقافياً وهندسياً وصحياً. فهل تبدأ قبل أن يصبح الكهول شيوخاً؟

إن هناك حاجة ماسة لإجراء دراسة حقيقية لقياس أبعاد هذا التحدي وتقديم سلة من الحلول الخلاقة لمواجهته. إن الكادر البحثي في الجامعة السورية الخاصة مستعد، بالتعاون مع الجهات المعينة في منظومة التعليم العالي، لإجراء هذه الدراسة وعلى نفقة الجامعة خدمةً للهدف الذي يجمع كل المعنيين وهو تحصين هذا القطاع وتمكينه من أداء دوره في مرحلة الخروج من الحرب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن