قضايا وآراء

كفى متاجرة بمعاناة السوريين.. ناقلة نفطٍ أم صندوقُ رسائل؟

| فرنسا- فراس عزيز ديب

في وقتٍ تجوب فيهِ السفُن الإيرانية العالمَ لنقلِ النفط إلى الشعب السوري فإن مصر تقوم بمنعهِ عنهم. عبارةٌ غزت العالم الأزرق في اليومينِ الماضيين فكانت أشبهَ بالجملةِ المفتاح لأغلبية من يدورون في الُفلك الإيراني وتعاطوا مع خبرِ احتجاز سلطات جبل طارق لناقلةِ النفط الإيرانية «غريس 1» في المياه الدولية. بمعزلٍ عن مدى مصداقيةِ هذهِ العبارة فهي وإن نجحت بإعادة تذكير الشعب السوري بتبرعِ النظام المصري بشكلٍ مباشرٍ أو غيرَ مباشر ليكون رأسَ حربةٍ في تطبيق العقوبات الأميركية والأوروبية والعربية عليهِ، لكنها في الوقت ذاته بدَت وكأنها نوع من الاصطيادِ في الماءِ العكر.
بالتأكيد القضية هنا ليست تبرئة لنظامِ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي صاحب نظرية «أمن المواطن الإسرائيلي من أمنِ المواطن المصري»، وليست اتهاماً لإيران التي تتعرض فعلياً لأحد أقسى أنواع البلطجة الدولية بمعزلٍ عن الأسباب التي أوصلتها إلى ذلك، لكنها بالنهاية مجردَ نظرةٍ واقعيةٍ للأمور هدفها بالدرجةِ الأولى منعَ كل الأطراف من المتاجرةِ بمعاناةِ السوريين بما فيها مشكلاتهم الاقتصادية، لتتحولَ أوجاعنا إلى جسرٍ يتبارى عليهِ من يظنونَ أنهم حريصون على المواطن السوري، وفي الحقيقة هم جميعاً جزء من المشكلة.
في الوقائع، وحتى كتابةِ هذهِ السطور فلا شيءَ يُثبت أن وجهةَ ناقلة النفط «غريس 1» كانت إلى سورية، حتى بيان سلطات جبل طارق المحلية تحدثت عن «اشتباهٍ» بتوجهها إلى ميناءِ بانياس، لكنه بالنهاية يبدو كلاماً للاستثمارِ السياسي لا يختلف عن أي استثمارٍ للحربِ على سورية، كتصريحات المسؤولين في لبنان والأردن مثلاً عن ربط مشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية بالنازحين السوريين، وعليه فإن قضيةَ هذه الناقلة تجعلنا نظرياً أمام احتمالينِ اثنين:
الاحتمال الأول: إن الناقلة كانت في المياهِ الدولية بهدفِ التجارة بالنفط لا أكثر ولا أقل، وهو أمر رائج حيث يتم تفريغ الحمولات في سفنٍ أصغر قرب سواحل دولٍ بعينها ترغب في شراء النفط الإيراني.
هذا الاحتمال تدعمهُ الكمية الكبيرة التي تحملها الناقلة العملاقة والتي تتيح لها الوصول إلى أكبر عددٍ من الزبائنِ المحتملين، إذا ما أخذنا بالحسبان مسار العبور الطويل الذي سلكتهُ والذي استغرق عدة أشهر عبرَ رأس الرجاء الصالح، وإن كانت هناك تقارير تحدثت أيضاً عن نوعية الحمولة التي تحملها الناقلة والتي لا تبدو سورية بوضعِها الحالي بحاجةٍ إليها.
أما الحديث عن تعذر خيار قناة السويس إما بسبب ضخامةِ الناقلة، وإما بسببِ منع سلطات قناة السويس للنفط الإيراني من العبور فالتبريرات تبدو مُستَهلكة وبمعنى آخر:
لا تبدو ضخامة الناقلة سبباً، فلو كانت وجهتها الحقيقية سورية لجرى توزيعَ الحمولة على ناقلتين أصغر، أما بما يتعلق بقرارات إدارة قناة السويس فهناك معلومات على أن ناقلات تحمل النفط الإيراني قد عبرت القناة ولم يمنعها أحد!
في سياقٍ آخر فإن البلطجة الغربية ليست مبررة في المياهِ الدولية حتى لو كانت الوجهة سورية، فذريعة العقوبات على سورية ساقطة لأنها عقوبات من جهةٍ واحدة وليست عقوبات من مجلس الأمن، أما بما يتعلق بالعقوبات الأوروبية فإن السلطات الإسبانية حتى الآن تبدو بعيدة عما حصل والذي يشكل انتهاكاً لسيادتها، كما أن الحديث عن العقوبات يبدو بسياقين متضادين، فهل المقصود هو العقوبات الاقتصادية على سورية؟ هذا الأمر يمنع التبادل التجاري بين دول الاتحاد الأوروبي والجهات الرسمية السورية تحديداً أن بريطانيا ليست ضمن الاتحاد الأوروبي. أما إن كان المقصود العقوبات على إيران فإن الاتحاد الأوروبي اليوم لا يطبق عليها أي عقوباتٍ فجميعها أُزيلت بعد توقيع الاتفاق النووي بل على العكس هناك شركات أوروبية نشطت في إيران بمجال الطاقة من بينها توتال الفرنسية قبلَ أن توقف نشاطها بعد العقوبات الأميركية الأخيرة التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب وليسَ الأوروبية.
الاحتمال الثاني: ليست بناقلةِ نفط بقدرِ ما هي ناقلة رسائل
في الوقت الذي انتظر فيهِ الجميع ردَّ الفعل الروسي على هذهِ الحادثة، كان هناك العديد من وسائل الإعلام الغربية تُعيد تشكيلَ أكاذيبها بصورةٍ متجددةٍ حول ما تسميهِ توتراً أمنياً بين كل من القوات الروسية وما تسميها «الميليشيا الإيرانية» في شرق الفرات، أكاذيب اعتادوا على سوقها بشكلٍ متزامنٍ مع أحداثٍ تتطلب دعم أحد الطرفين الروسي أو الإيراني للآخر.
لكن الموقف الرسمي الروسي من حادث احتجاز ناقلة النفط لم يتأخر، حينَ أكدت وزارة الخارجية الروسية في بيانٍ لها إدانتها للحادثة محملةً المسؤولية ولو ضمنياً للولايات المتحدة الأميركية، بدا البيان الروسي محبوكاً بطريقةٍ واعية تحديداً أن جوهرهُ تلخص بما هو أهم: وضعَ الأوروبيين أمام مسؤولياتهم بما يتعلق بالتزامِهم بالاتفاق النووي مع إيران فكيف ذلك؟
لا يخفي الروس أبداً نظرتَهم الساخرة للحالِ التي وصلَ إليها الأوروبيون من التبعيةِ العمياء للولايات المتحدة الأميركية، تحديداً بما يتعلق بتردّدهم الدائم من أخذِ موقفٍ حازمٍ تجاهَ انقلاب الإدارة الترامبية على الاتفاق النووي الموقَّع مع إيران، لكن في الوقت ذاته فإن الروس لا يخفونَ أيضاً رغبتهم في محافظِة جميع الأطراف بما فيهم إيران على الاتفاق.
لا يبدو أن الحرص الروسي ينطلق من فرضيةِ السعي للحفاظ على نقاط السلم والأمن الدوليين فحسب، هذا الحرص مردّهُ بالأساس أن إيران لم توقع الاتفاق مع الولايات المتحدة فقط، لكنها وقعتهُ مع أطراف متعددة بما فيهم الروسي، أي إن على الإيرانيين أيضاً عدمَ الانزلاق ولو مؤقتاً للبدءِ بالانسحاب الجزئي من الاتفاق النووي إن كان برفعِ مستويات التخصيب أو ما شابه، على هذا الأساس تصبح قضية الناقلة أشبه بفخٍّ أرادَ الروس والإيرانيون وضع الأوروبيين فيه أمام التزاماتهم إما البقاء وإما الانسحاب قبل موعد اليوم الأحد السابع من تموز الذي حددتهُ إيران لرفع مستويات التخصيب كمؤشرٍ إلى الانسحاب الجزئي من الاتفاق النووي فماذا ينتظرنا؟
من الواضِح نظرياً أن الاتفاق النووي مع إيران لا يسقط جزئياً بل يسقط كتلة واحدة بمعزلٍ عن مدى تراجع أي طرفٍ عن التزاماته، وعليه قد يبدو موعد السابع من تموز مفصلياً بتحديدِ مستقبل الاتفاق، لكن الواقع يشير ببساطة إلى أن الجميع بات يتعاطى من مبدأ أن الاتفاق بات من الماضي، هذا التعاطي يبدو كجزءٍ من لعبةِ خلط الأوراق الدولية التي تجعل من الملفات كتلة متماسكة وبمعنى آخر: يبدو الإيراني اليوم أكثر ارتياحاً، حتى لو عاد الملف النووي إلى مجلس الأمن فإنه بالتأكيد قد حصلَ على ضماناتٍ روسية صينية بأن العودة إلى سياسةِ فرض العقوبات عبر مجلس الأمن كما كانت الحال عليها قبل توقيع الاتفاق من المستحيل والفيتو الروسي أو الصيني سيكون حاضراً، لكنه في هذه الحالة سيخسر فقط الكتلة الأوروبية التي بالأساس تبدو عاجزة، مع وجود إمكانية كبيرة لتعويضها بشركاتٍ صينية وروسية ومنها من بدأ فعلياً بخلافة تركة توتال الفرنسية، لتصبح الكرة بملعب المدافعين عن الاتفاق النووي من ضمن الإدارة الإيرانية ومنهم من كانوا يصرّون على التعامي عن حقيقة أن من يسمونه بأدبياتهم «الشيطان الأكبر» لا أمان لهُ ولا لشياطينهِ الصغيرة عندها يصبح السؤال: أهي ناقلة نفط أم ناقلة رسائلٍ؟ هامشياً لأنها كانت فعلياً مجردَ ناقلة نفطٍ لا أكثر لكن ما سينتج عنها أكثر من مجردِ رسائل.
لا تنتظروا قيام إيران برد فعلٍ معاكس ولا تنتظروا حرباً أميركية بات من يتوقعونها أشبهَ بـ«الأراجوز»، كل ما سننتظره هو المزيد من المتاجرة بالحرب على سورية، باختصار لن يطول الوقت حتى يبان لنا النفط الأبيض من النفط الأسود!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن