ثقافة وفن

كان يذكر دائماً بأننا نحن السوريين بناة مدن وحضارات … د. محمد محفل.. «أستاذ الأساتذة وشيخ المؤرخين السوريين وكبيرهم»

| وائل العدس

في الجزء الثاني والأربعين من سلسلة «إعلام ومبدعون» الشهرية الموجهة لليافعة، أصدرت الهيئة العامة السورية للكتاب كتاباً يسلط الضوء على حياة المؤرخ السوري الراحل، الدكتور محمد محفل من تأليف الكاتب ناظم مهنا مؤلفاً من 48 صفحة من القطع الصغير.
ومحفل علم من إعلام ثقافتنا الوطنية ومنارة من منارتها المعاصرة، تمتع بخصائص وسمات المؤرخ الرصين الذي يتقصى الحقيقة وفق منطق عقلي، بعيداً عن الخرافات والمبالغات، فهو لم يستسلم قط للمسلّمات التي انتشرت في الكتب والعقول، وكان قد بثها المستشرقون وكررها المؤرخون، بل أخضعها للنقد والفحص بروح علمية ووطنية عالية، وكان فارساً من فرسان التاريخ، له في حياته صولات وجولات مشهودة، وترك خلفه تراثاً من المعارف والحقائق الموسوعية التي استخلصها على ضوء منهجه العقلي، وهذا بعض مما جاء في الكتاب:

مسيرة علمية
ولد محفل عام 1928 في حلب، تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي في معهد الإخوة المريميين، وفي الصيف كان يتابع دروسه في العربية على يد كبار المشايخ، وكان يحضر منذ صغره حلقات الشيخ عمر المرتيني في المسجد الأموي، ودرس العربية والنحو في المدرسة الشرقية بإشراف مصطفى اللبابيدي.
بعد إغلاق المعاهد الفرنسية عام 1945 تابع الدراسة الإعدادية والثانوية في مدرسة التجهيز الأولى في حلب، ومنذ مراحل التعليم الأول أظهر نبوغه وتفوقه الدراسي وحتى المرحلة الجامعية، فكان الأول بين الناجحين في كلية الآداب، وأوفدته وزارة المعارف السورية إلى جامعة باريس لتحضير الدراسات العليا وشهادة الدكتوراه في التاريخ القديم، وتابع هناك حلقات الأستاذ دوبنت سومير أستاذ التاريخ القديم وعالم اللغة الآرامية والتاريخ الآرامي، وانتسب في الوقت نفسه إلى معهد اللوفر.
وفي فرنسا درس العديد من اللغات، وبعد عامين طلبت منه السلطات الفرنسية مغادرة البلاد بسبب نشاطه الطلابي لمصلحة الثورة الجزائرية، فذهب إلى جنيف وحولت الجامعة السورية إيفاده إلى جامعة جنيف حيث تعلم اللغة الألمانية واختار أطروحته للدكتوراه «دور الرقيق في انحطاط الإمبراطورية الرومانية»، وبعد انتهاء حرب الجزائر عاد إلى فرنسا.
وفي عام 1967 استدعته جامعة دمشق قبل مناقشة أطروحته، وهذه العودة القسرية أخرت فوزه باللقب العلمي زهاء ثلاثة عقود.
وبعد عودته درس اللغات اليونانية واللاتينية والآرامية، كما درس في جامعة عمّان وأسهم في تأسيس لجنة كتابة تاريخ العرب عام 1976.
وعلى مدى سنوات من حياته، قام بتدقيق وضبط الأعمال الدرامية التاريخية، وكان له دور في ذلك لأهمية الموضوع بالنسبة إلى قطاع واسع من مشاهدي الدراما العرب. كتب مقدمات كتب عديدة وله مقالات في التاريخ القديم والحديث.
سورية كانت تعني الكثير لمحفل، سورية التي هي بلاد الشام، عظيمة لما قدمته للإنسانية، وهي من أقدم المناطق في العالم، وكان يذكر دائماً بأننا نحن السوريين، بناة مدن وحضارات.

تكريم وتبجيل
حاز وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة وفق المرسوم التشريعي رقم 191 تاريخ 5/6/2012 الصادر عن السيد الرئيس بشار الأسد، وقامت الدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية بتقليده الوسام بتاريخ 20/6/2012.
وكانت جامعة الدراسات الإسلامية – قسم الدراسات في جامعة كراتشي في باكستان قد منحته تقديراً لإنتاجه العلمي درجة الدكتوراه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف عام 1999.
كأستاذ ومؤرخ كبير يحظى بمكانة مرموقة بين طلابه وزملائه المؤرخين والمدرّسين، وفي الأكاديميات العربية والدولية، أطلقوا عليه ألقاباً ونعوتاً تبجيلية كثيرة منها أستاذ الأساتذة، شيخ المؤرخين السوريين وكبيرهم، حارس التاريخ السوري، حارس الآرامية، أستاذ التاريخ القديم.
استحق كل هذا التكريم والاحتفاء والتبجيل لما تمتع به من معارف موسوعية ومن نزاهة في الحكم نابعة من أخلاق علمية رفيعة، وتواضع في السلوك، جعله مقرباً إلى قلوب من يلتقون به، ولو لأول مرة، ولما اتصف به من دماثة وكياسة ولطف في قول الرأي.

اللغات القديمة والحديثة
كان مؤرخاً جاداً، يسعى لاستخراج الحقائق، وكرس حياته في سبيل البحث التاريخي، مستخدماً منهجه القائم على التدقيق في المعلومات وإخضاعها للقياس العقلي، ويذهب بتنبه إلى المصادر التاريخية، ويجري عليها تفحصاً وتحليلاً وتقاطعات حتى تكون النتائج مقنعة وقريبة إلى الواقع قدر الإمكان، ومن أجل ذلك عمل على توسيع معارفه في التاريخ وفي اللغات ومتابعة المكتشفات الأثرية وقراءة النقوش والكتابات والنصوص القديمة.
اهتم بشكل خاص باللغات القديمة وتطوراتها، وأجرى المقارنات ليكتشف البعد التبادلي بين اللغات الناتجة عن الاحتكاك الحضاري في العالم القديم.
كان محباً للغات القديمة والحديثة إلى درجة الوله، ولاسيما اللغة الآرامية التي تعد في نظره جذر اللغة العربية الفصحى والدارجة، وفي حبه لها كان أشبه بالمتصوف المنقطع للعبادة.
ولم يكن متسرعاً في أحكامه بل يقولها بأناة وحيطة وحزم في الوقت نفسه بعد أن تكون قد اختمرت واستخلصت بعناية، مستخدماً ملكة النقد والتفحص، مخضعاً المادة التاريخية للدرس والتمحيص قبل استخلاص النتائج.
ولم يكن يسعى إلى الألقاب والمآثر الذاتية، وحسبه أنه باحث ومرجع في التاريخ عند الأساتذة المختصين والمتهمين بالتاريخ، وكأنه متعبد في معبد الحقيقة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن