ثقافة وفن

القرن العشرون في دمشق من الذاكرة من التراموي إلى العلوم وفنون الخفة

| منير كيال

كثيراً ما يحنّ المرء إلى طفولته، ويجد متعة كلما تراءت له صورة من هذه الطفولة. وما سأقدمه بهذا البحث، إنما هو غيض من فيض. وهي بجميع الأحوال حنين لما يدور بذاكرة المرء من صور تأبى التلاشي، أو النسيان. على ما مرّ عليها من تقادم. ذلك أن من الصور ما يبدو البون شاسعاً بين ما هو عليه من نعم وفرتها له الحياة المعاصرة، وبين ما كان عليه أسلافنا. ومن ذلك حياة الأطفال بالخوجة والكتاتيب، وما كان عليه الأطفال مع مسحر شهر رمضان (أبو طبلة)، بل ما كان عليه الأطفال مع جابي عربة الترام (الترامواي) المعروف باسم الكمسياري.
وسنتوقف بهذا البحث مع جوانب من هذه الصور عسى أن تتيح لنا الظروف تقديم ما تبقى من هذه الصور.
فقد كانت الكتاتيب خلال النصف الأول من القرن المنصرم (العشرين) منتشرة بأحياء مدينة دمشق، وكان الطفل يتعلم بهذه الكتاتيب مبادئ القراءة والكتابة، وأصول الدين الحنيف، من تلاوة للقرآن الكريم وكذلك علوم الحديث النبوي، والسنة النبوية فضلاً عن الإلمام بعلوم الدوبيا (الرياضيات) من جمع وطرح وضرب وتقسيم، ومسك دفاتر أو سجلات المحاسبة. فإذا انتهى تحصيل الفتى بالكتّاب، كان عليه أن يعمل بحرفة أبيه، أو يتابع تحصيله بحلقة من حلقات الدين بمسجد الحي.
ذلك أن المدارس النظامية لم تكن متوافرة بمدينة دمشق بالقدر المطلوب، ونذكر على سبيل المثال أنه كان بحي الشاغور البراني منه (خارج سور مدينة دمشق) والجواني منه مدرستان ابتدائيتان، الأولى هي مدرسة أبي عبيدة بن الجراح بمحلّة الخضيرية والثانية مدرسة موسى بن نصير شمال محلة زقاق الإصلاح.
فإن أتيح للواحد منا متابعة تحصيله بالجامعة وجد بهذه الجامعة أساتذة أجلاء، يفتحون له الطريق ويكونون له عوناً بالمجال الذي رغب في تحصيله، وأذكر من هؤلاء الأساتذة: أمجد طرابلسي وسعيد الأفغاني ونور الدين حاطوم ونظيم الموصلي وصلاح عمر باشا وأنور النعمان وعمر الحكيم.
ولا تفوتني الإشارة إلى العلامة الشيخ محمد دهمان مؤرخ مدينة دمشق ومحقق العديد من نفائس أمهات الكتب من تراث مدينة دمشق، وهو الذي أخذ بيد العديد من الباحثين والدارسين إلى جادة الصواب.
وكان من هذه الصور التي لاتني تراود ذاكرتي وتعود بي إلى طفولتي وما كنت عليه أنا وأندادي مع مسحر رمضان، فمسحر رمضان من أمتع الصور التي حفلت بها هذه الذاكرة، يوم كنت أنا وأندادي ننتظر بفارغ الصبر أذان المغرب لتناول ما لدينا من لذائذ المآكل التي احتفظنا بها لحين يؤذن المغرب، وبالتالي ما كان عليه حالنا مع مسحر رمضان (أبو طبلة) يوم كنا لدى طوافه بعد الإفطار نتسارع لنحمل له السلّة التي حوت على ما يقولون عنه من طعام خليط مليط، حتى إن الواحد منا لا يكاد يميّز بين طعام وآخر لتراكم الأطعمة التي تعطى للمسحر بإناء واحد، وكان المسحر إذا امتنع عن السماح لنا بحمل سلّته أو نقر على طبلته، وكما نتحلق حوله مرددين:
أبو طبلة مرته حبلى
شو جابت ما جابت شي
جابت جردون بيمشي
فيسارع المسحر لإمساك أحدنا، فنفرّ ضاحكين، وما إن يكف المسحر عن ملاحقتنا حتى نسارع بالطلب أن يحكي حكايته مع البرغوث وحكايته مع زوجتيه الضراير وما كان من أمر اتفاقهما عليه، حين تجوران عليه ليبقى حافياً عرياناً، وكان من أجمل ما بالذاكرة من فرحة العيد ما يتاح لنا من مأكل من لحم المعلاق المشوي والإقبال على تناول الفول المسلوق (النابت) استجابة لبائع هذا الفول وهو واقف وراء حلة الفول المسلوق وهو يدعو الأطفال لتناوله:
النابت نبت.
طلعت إيده هالنابت.
هلاّ استوى اللوز.
يللي ما بياكل نابت ما له عيد.
وكان للفرج بالعيد دور كبير، ولعل أمتعها الفرجة على الضبع الذي أكل بياع الحلاوة على طريق جوبر، والفرجة على الحاوي (الساحر) التي تأخذ بألباب الأطفال لما كان عليه من حركة رشيقة ومن هذه الفرج، الفرجة على الرأس المقطوع الذي يحدث الأطفال وكأنه منهم، ومن هذه الفرج تلك الفرجة على فتيان من أبناء الحي المجاور وهم يشاركون أهل مدينة دمشق العيد بالدبكة والغناء.
وبالطبع فإن الواحد منا لا ينسى ليلة العيد كم هي طويلة فهو يعدّ دقائقها بالساعات، ويتهيأ إلى لبس ثياب العيد من الطربوش إلى البابوج من قبل بزوغ شمس أول أيام العيد، ويجلس متأففاً بانتظار أن يعود والده من صلاة العيد، ليأخذ منه مصروف العيد (العيدية).
وكان من الفتيان ما يرددون فرحين بقدوم العيد قولهم:
اليوم عيدي يا لالا
ولبست جدييد يا لالا
فستاني الأحمر يا لالا
عالصدر مكشكش يا لالا
بقعد عاكرسي يا لالا
بحكي إفرنسي يا لالا
واليوم عيدي يا لالا
فإذا حصل الطفل على مصروف العيد، وهو ما يطلق عليه اسم العيدية، انطلق إلى رحاب العيد، ويعيش فرحته على نحو ما ذكر.
وكان من أمتع ما بالعيد عند الأطفال، ركوبهم جمل الحج وركوبهم الأراجيح والدواخات حتى إن الواحد منهم يتمنى ألا يغادر الأرجوحة أو الدواخة، وهو يردد:
قويّها منجدد.
قويّها منجدد.
وإذا ألحّ عليه مؤجر هذه الأرجوحة أو الدواخة بالنزول ليركب الآخرون يجيبه ذلك الطفل بقوله:
قويّها منجدد.
ما مننزل إلا بقتلة.
ومشاركة الفتيات بالعيد أمر لا بدّ منه، ولعل العيد من دونهن ليس جميلاً أو مو حلو، كما يقولون، لما يضفي حضور الفتيات بالعيد من نعومة وأنوثة، لما هنّ عليه من حنوِّ وإيثار. ومع ذلك الواحدة منهن لا تنسى أن تعبّر عن مشاعرها بالعيد. ومن ذلك قولهن في ساحة العيد:
اليوم عيدي يا لالا
ولبست جديدي يا لالا
فستاني الأحمر يا لالا
عالصدر مكشكش يا لالا
بقعد عاكرسي يا لالا
بحكي إفرنسي يا لالا
واليوم عيدي يا لالا
وكان من الأمتع عند الأطفال ركوبهم جمل الحج بزعمهم وأكلهم الفول النابت استجابة لنداء بائع هذا الفول بقوله:
النابت نبت يا وليد
هلاّ استوى اللوز.
يللي ما بياكل نابت ما له عيد.
فضلاً عن هذا فقد كان التمتع بالفرجة على مشاركة أبناء الريف المجاور لريف مدينة دمشق بالعيد لما بها من متعة ومشاركة بالعيد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن