قضايا وآراء

عندما تفوق النار قدرات «الإطفائية»

| عبد المنعم علي عيسى

كان لافتاً تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عشية التوتر الحاصل مؤخراً بين الولايات المتحدة وإيران ما بعد حادثتي استهداف ناقلتي نفط في بحر عمان الذي قال فيه: إن موسكو غير قادرة على لعب دور «الإطفائية» في مؤشر اعتبر في حينها أن الأخيرة أرادت التعبير عن عدم جهوزية فرق إطفائها على كل المستويات للعب دور ما في إخماد النار إن هي اندلعت، أو حتى محاصرتها قبيل أن تفعل.
شكل العدوان الإسرائيلي 30 حزيران الماضي على مواقع في محيط دمشق وحمص حرجاً من العيار الثقيل، كما ألقى شكوكاً حول دور محتمل لـ«الإطفائية» الروسية ومدى جهوزيتها في محاصرة، إن لم يكن إخماد، النار السورية المختلفة بطبيعتها وأهميتها لموسكو قياساً بما يجري في الخليج على الرغم من تداخل النارين بدرجة قصوى مع تسجيل فارق في النظرة الروسية تجاه كل منهما، وهو ما يعكسه تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بعد ساعات من ذلك العدوان بالقول: «إن موسكو تدرس الضربات الإسرائيلية على سورية».
قد لا يكون لزاماً على الوزير الروسي إطلاق تصريحات نارية أو إرسال إنذار روسي على شاكلة الذي أطلقه الزعيم السوفييتي السابق نيكيتا خروتشوف إبان العدوان الثلاثي على مصر في تشرين الثاني من العام 1956، فمؤكد أن الظروف اختلفت ثم أن الإستراتيجيات انقلبت ومعها موازين القوى الدولية، لكنه بالتأكيد كان لزاماً عليه تحديد النظرة الروسية إلى ذلك العدوان الأوسع منذ ستة عشر شهراً على الأقل في ضوء اجتماع القدس الذي جمع مستشار الأمن القومي الروسي إلى جانب نظيريه الأميركي والإسرائيلي يوم 25 حزيران الماضي والذي لم يكن قد مضى عليه خمسة أيام كاملة، فالضبابية في حالات تراكمية من هذا النوع قد تكون أكثر خطراً بما لا يقاس من حالتها النقيضة، حتى ولو كانت الحالة الأولى، أي الضبابية، هي حالة إعلامية تضمر مواقف أخرى لها تراجم مختلفة على الأرض، مما يمكن تلمسه في ما نشره موقع «تايمز أون إسرائيل» المتخصص في تحليل صور الأقمار الصناعية بعد يومين من العدوان عندما قال إن صوراً حصل عليها تؤكد أن سورية قد استكملت نشر بطاريات صورايخ إس 300 الأربعة في منطقة مصياف في ريف حماة، والرابعة نشرت، وفق المصدر، مؤخراً بعد ثلاث كانت قد نشرت في النصف الثاني من شهر شباط الماضي.
ليس صحيحاً، دون أن يعني ذلك نفياً كاملاً، أن الضربات الإسرائيلية التي تطول العمق السوري منذ سنوات تهدف إلى ضرب مواقع إيرانية وأخرى لحزب اللـه تزعم تل أبيب أنها تهدد الأمن الإسرائيلي، فعلى الرغم من أن هذي الصورة هي البادية للعلن وهي التي يجري تسويقها إقليمياً ودولياً، إلا أن الهدف البعيد لتلك الضربات يهدف من حيث النتيجة إلى منع الجيش السوري من بناء قدراته الدفاعية وترميم العديد من الثغرات التي برزت إبان الحرب المستمرة منذ أكثر من ثماني سنوات لم تنقطع، وهذه الرؤية يمكن تدعيمها عبر لحظ حالة التغير في النظرة الإستراتيجية التي يتبناها عادة التقرير الصادر عن مؤسسة الجيش الإسرائيلي كل عام وفيها يجري تحديد المخاطر التي تتهدد الكيان الصهيوني تبعاً لأولوياتها، ففي الوقت الذي ذكر فيه التقرير الصادر عنها للعام 2015 أن سورية باتت «دولة فاشلة وفي حالة تفكك» عاد التقرير الصادر عن المؤسسة عينها للعام 2018 ليلحظ أن الجيش السوري قد استعاد بناء العديد من قدراته وخصوصاً الصاروخية منها وأن سورية ماضية نحو استعادة دورها السابق لتشكل من جديد مصدر التهديد الأول للكيان.
في ضوء هذا التغير الحاد في الرؤية يمكن فهم استهداف مواقع إيرانية تقدم الخبرة والدعم التقني والتكنولوجي لمؤسسة الجيش السوري، ولا يهم تل أبيب هنا إذا ما خرج بضع عشرات من الخبرات أو حتى من عناصر الحرس الثوري الإيراني من سورية أم لم يخرجوا إذا ما ظلت تلك الخبرات تصل إلى الأماكن التي يجب أن تصل إليها، والمطلوب أن تبقى سورية دولة ضعيفة بلا حلفاء قادرين على مد يد العون إليها في الوقت الذي لا يزال فيه الجولان السوري محتلاً، وفي جوارها كيان استيطاني استولى على جنوبها التاريخي بل لا يزال ماضياً في رسم إستراتيجيات التمدد والاستيطان.
تدرك موسكو جيداً أن ولوجها إلى العالمية الذي انطلق منذ الصرخة التي مثلتها شرارة الحرب الروسية الجورجية في آب من العام 2008، لم يكن له أن يمتلك كل هذا الزخم والقوة لولا البوابة السورية التي فتحت منذ الفيتو الروسي الصيني الأول الخاص بالأزمة السورية في تشرين الأول عام 2011 ثم شرعت على مصاريعها ما بعد «عاصفة السوخوي» في أيلول 2015، كما تدرك أن صمود محور دمشق طهران حزب اللـه المدعوم منها بالتأكيد كانت له عوائده الكبرى على ثقل موسكو العالمي، ومن الصعب لهذي الأخيرة أن ترى مكاسبها وهي تتآكل على امتداد الساحة السورية إذ لطالما كان من المؤكد أن المصلحة الروسية تكمن في وجود سورية، وكذا إيران، قوية ولا مصلحة لها في وهن أي من الاثنين، صحيح أن السخونة الحاصلة قبل أسابيع في الخليج وآخر فصولها احتجاز ناقلة النفط الإيرانية «غريس 1» يوم الخميس الماضي من سلطات جبل طارق التابعة لبريطانيا والردود الإيرانية المحتملة عليها في ضوء تصريحات لقادة كبار في الحرس الثوري، بإمكان الرد على الفعل بفعل مثله، تلك السخونة قد غيرت الكثير من المعادلات الدولية وهي لم تتبلور معالمها بعد ولا مرشح لها أن تفعل عما قريب، إلا أن ذلك كله ليس مبرراً لكي تعيش موسكو حالة ترقب قد يطول أمدها في وقت تسعى فيه تل أبيب إلى استثمارها بشكل مسعور وهي تشعر بأنها في سباق مع الزمن قبيل أن ترسو المعادلات في الخليج على توازن معين.
يمكن الحكم على العلاقة الإسرائيلية الروسية ما بعد العام 1991 بأنها من نوع العلاقات التي ترسمها ميكيافيلّية مفرطة أو هي دخلت هذا الطور الأخير في مرحلة الرئيس فلاديمير بوتين أقله منذ اندلاع «الربيع العربي» الذي عبر هذا الأخير عن مخاوفه اتجاهه قائلاً على شاشات التلفزة إنه يخشى أن تؤدي ثورات الربيع العربي إلى ثورات في بلدان آسيا الوسطى المحيطة بالاتحاد الروسي التي تحكمها أنظمة إسلامية فاسدة، وهي، أي تلك العلاقة، من الصعب توصيفها على أنها تسير في اتجاه تحالف من نوع ما، فخارج رأس هرم السلطة أو دوائر القرار في البلدين هناك الكثير ممن يرسمون تصورات أخرى عنها، حتى أن مؤتمر «هرتسليا» المنعقد في 30 من حزيران الماضي كان قد طرح، من بين ما طرح، الوجود الروسي في الشرق الأوسط كتحد يواجه الكيان الإسرائيلي وقد خلص الباحثون في هذا المحور إلى توصية تدعو إلى وجوب تحديد موقع موسكو بالنسبة لتل أبيب أهي صديق أم عدو.
كانت البراغماتية إذا هي التي حتمت على موسكو تقارباً مع تل أبيب لاعتبارات تتعلق بتلك الإستراتيجية التي بدت أساسية في أولويات موسكو الخارجية، لكن الرؤية نفسها يجب أن تحتم دوام جهوزية «الإطفائية» الروسية تحت أي ظرف كان حتى وإن انعدمت سبل السياسة فلدى موسكو الكثير من الخيارات أقلها دعم القدرات الدفاعية السورية ولربما تقتضي المصلحة الروسية العليا الرمي بثقل أكبر في هذا الاتجاه إذا ما أصرت تل أبيب على ممارسة العنجيهة ذاتها التي ما انفكت تمارسها قبل أكثر من أربع سنوات، فيما عدا ذلك قد تفقد منظومة الإطفاء العالمي برمتها قدرتها على وأد النار.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن