ثقافة وفن

التراث الشعبي الدمشقي ذاكرة ثقافية … ميداني لـ«الوطـن»: شُح اليد العاملة سيؤدي إلى انقراض الحرف

| سوسن صيداوي

«وَعِزُّ الشَرقِ أَوَّلُهُ دِمَشقُ»… الشطر الثاني لبيت قاله أحمد شوقي من قصيدة نكبة دمشق. وأنا اخترت هذا الشطر لأنني متمسّكة بإيمان شخصي عميق، بأنّ بداية العالم ونهايته كانت وستكون من دمشق. فالعزّ من هنا، والطريق من هنا، والحب والشِعر والتغنّي… كلّه دافق من هنا، من هنا… هنا دمشق معنا وفينا، بالحاضر والآتي مترافقاً مع الماضي، ومهما جار الزمن، بل مهما تجمّعوا وتكاتفوا، ستبقى دمشق، وسنبقى أهل الشام السورية. من هذه المقدمة- الحماسية- أحببت أن أنطلق بالحديث عن حرفنا اليدوية الدمشقية، وخاصة عندما يقوم الحرفي بتصنيع طاولة مساحتها متر× متر ويعلوها 4000 صورة صدفية مطبّقة، كلّها تمّ تركيبها على الخشب بعد حفره، بتناظر هندسي مرعب، لا يوجد فيه فرق أو خلل ولو بميلمتر واحد، كما أن من قام بإنجاز هذه القطعة، رجل عمره يفوق الخمسة والسبعين عاماً خلال عمل استمر ستة أشهر، رغم الظروف المعاكسة من انقطاع تيار كهربائي وعدم توافر وسائل التدفئة وغيره.
اليوم صحيفة «الوطـن» حاورت ميزر ميداني الذي يعمل على بث الحياة في المنتجات اليدوية الدمشقية سواء من الموزاييك الدمشقي أم الأثاث والصناديق وغيرها المطعمة بالصدف، والذي لفتنا إلى هذا الحوار ليس جمالية المنتجات وتنوعها وفرادتها فقط، وإنما طرق التسويق المتبعة والمعتمدة حصراً على الميديا، عبر تصوير مراحل صناعة كل قطعة على حدة، لإظهار أدق التفاصيل معبرين بطريقة لائقة عن فخامة ما لدينا من تراث حضاري سوريّ، محافظ على أصالته بمواده وصناعته اليدويّة، لكون الصورة المروّجة هي طبق الأصل، وهناك عيّنات من المواد الأولية المستخدمة سواء خشب جوز دمشقي أم ليمونة، أو الصدف النهري الفراتي، مع الاستعانة بصدف بلدان أخرى، موجودة أثناء البيع ويمكن للمشتري معاينتها أيضاً. وللحديث أكثر عما تواجه الصناعات اليدوية التراثية من مشاكل وصعوبات وتحديات، ومواجهتها للمعروض الأجنبي العصري مع تفوقها عليه، وحول تقدير الصناعات اليدوية من الأجانب والعرب على حدّ سواء، نفيدكم بالمزيد:

في البداية اشرح لنا كيف توجهت إلى حرفنا الدمشقية التراثية وكيف اعتمدتها عملاً خاصاً بك من حيث الإنتاج والإحياء وأنت بالأساس لست من عائلة توارثت حرفة صناعة الموزاييك الدمشقي ولا حرفة التطعيم بالصدف؟
نعم، في البداية عندما قررت القيام بذلك بالصورة الفردية والمختصة بتجارة التحف الفنية، قررت نوعية البضائع التي سيتم الترويج لها، الأمر الذي دفعني إلى دراسة كل حرفة على حدة بكل تفاصيلها، حتى إنني بدأت بالعمل في الورشات إلى جانب الحرفيين بكل مراحل الإنتاج ولأي قطعة كانت، صحيح أنني لم أرث مثلاً حرفة تطعيم الخشب بالصدف-كما هو متعارف-من الأهل، ولكنني سعيت بشكل جاد كي أكون صاحب خبرة بهذا الموضوع، واجتهدت كي أنتج أجود القطع وأكثرها قيمة فنية وتراثية إلى جانب باقي الحرفيين متعلماً منهم ومكتسباً كل المهارات المطلوبة.

النشاط للعالم ولكن الإنتاج للبضائع يكون من دمشق؟
بالطبع، البضائع كلّها وبشكل حصري مصنّعة في دمشق، ومصدر موادها الأولية منها أيضاً، عدا بعض التفاصيل سأذكرها لاحقاً، والمادة التي نريد تصنيعها تبدأ من الصفر إلى الشكل المطلوب، ثم يتم شحنها بشكل نظامي، بعدها يتم التغليف ومن ثم يتم تصوير القطع بطريقة محترفة وبدقة عالية كي يتم تسويقها بأهم الصفحات العالمية، ويتم التسويق لها بدعاية مأجورة عبر الفيسبوك والإنستغرام، كما نحدد الشرائح التي نتوجه بالإعلان إليها، ونبدأ بطرح المنتج عبر الأونلاين، ومن ثم تسويق البضائع على المولات والأسواق، إضافة إلى المشاركة عبر البازارات اليدوية والتي ترتادها مجموعات كبيرة من السياح أو الشركات وحتى شركات الديكور، لكون المنتجات يتم اختيارها كي تُعرض في المنازل بطريقة متوافقة مع باقي الأثاث.
هنا لنتوقف قليلاً، فكما تعلم التصاميم والديكورات الأجنبية هي المرغوبة والتي يلهث الجميع لتطبيقها في المنازل، السؤال: كيف يواجه مثلاً الكرسي المطعّم بالصدف، كرسياً حديثاً وعصرياً في ترتيب ديكورات المنازل؟
للأسف ما يتم تجاهله أو هو أمر غير مدرك للكثيرين، هناك العديد من شركات الديكورات العالمية، تسعى لاقتناء المنتجات السورية اليدوية التراثية، حتى لو أنها تقدم ما يتماشى مع التطور والحداثة والعصرنة، إلا أنها دائماً تدخل في تطبيق ديكوراتها، مثلا طاولات أو كراسي أو مرايا مطعمة بالصدف، ويتم عرض الأخيرة لتضفي على الغرف الكثير من القيمة والجمالية.

حدثنا عن نوعية الزبائن التي تسعى لاقتناء القطع التراثية الدمشقية؟
النوعية مختلفة جداً ومتنوعة، فهناك الكثير من الأوروبيين والإيرانيين والأميركيين، إضافة إلى الروس والعرب، كلّهم يسعون لاقتناء ما نصنعه مهما بلغ حجم القطع من صِغر أو كِبر. وهنا أحب أن أشير إلى أننا نلتقي الكثير من الزبائن العالمين بالقيمة الفنية لهذه القطع، وبالمقابل أيضاً يأتي إلينا راغبون بالشراء ولكنهم لا يعلمون القيمة الحقيقية لها، لكننا نشرح لهم كيفية صناعتها والمواد الأولية التي تُنتج منها.

أشرت أعلاه إلى أن المواد الأولية مصدرها دمشقي باستثناء بعض التفاصيل، اشرح لنا أكثر؟
هذا صحيح، معظم المواد الأولية الداخلة في صناعة القطع دمشقية المصدر، باستثناء مثلا الصدف الذي أصبحنا نأتي به من تايوان أو ماليزيا كونه يعطي نحو اثني عشر لونا، وكنا نحضره بكميات كبيرة ولكن اليوم الكمية أصبحت محدودة بسبب الظروف المفروضة على البلد.
كما أنه يمكننا تجاهل ما تعرضت له المواد الأولية من قلّة وشح، فعلى سبيل المثال هناك أماكن مثل: دوما وحرستا والغوطة، كانت غنية جداً بالأخشاب، وعلى الخصوص أخشاب شجر الجوز الذي هو مهم جداً لمتانته في صناعاتنا الحرفية، وعلى الخصوص فيما يتعلق بتصنيع المفروشات منها، حيث يستخدم الحرفي فيها خشب الجوز أو خشب السنديان، ويقوم بمعالجته ومن بعد هذه المرحلة يقوم بالتصنيع. بالطبع الوضع الراهن فرض شحا بالمواد الأولية، وأصبحنا نجد صعوبات في التأمين، وخاصة أن الأسعار ارتفعت بنسبة عالية.

لمواجهة الشح بالمواد الأولية.. ألا يمكنكم استبدال نوعية معينة من المواد كما فعلتم بالصدف الفراتي حيث حلّ محله الصدف التايواني؟
أنا لا أقبل، فمثلاً الأخشاب لا يمكن استبدالها، ونحن نستخدم خشب الجوز لمتانته ولونه الأحمر، ولا يمكنني أن أستبدله بخشب شجر الشوح، وحتى للتأكيد على جودة المنتج وأصالته، أقوم إلى جانب البضائع بعرض عينات من الأخشاب الداخلة في التصنيع، وهنا أحب أن أشير إلى أن هناك مجموعة من الحرفيين يسعون إلى تقليل كلفة القطع، باستخدام أنواع من البلاستيك بدلاً من الصدف ويقومون بإلصاقها على الخشب، وبالطبع هذا الأمر لا يقلل من السعر فقط، بل أيضاً يقلل من القيمة التراثية والجمالية والفنية للقطع.

وأيضاً مما تتعرضون له من عقبات هو ندرة اليد العاملة الشابة في هذا الميدان، ما تعقيبك؟
هذا صحيح، وهناك الكثير من الناس ينظر إلى القطع المصنعة، ولا يدري كم الجهد بمراحله أو عدد الأشخاص الذين يتناوبون على صناعتها، هذا عدا عن أن الحرفيين هم من أعمار كبيرة في السن وأصغرهم بعمر الخمسين، ولهم في المهنة زمن يزيد مثلاً على الأربعين عاماً، وهم مثابرون ومجتهدون على القيام بعملهم مهما واجهتهم الظروف القاسية في الفترة الماضية، والتحديات في الفترة الحالية، فمثلاً عند انقطاع التيار الكهربائي في النهار، يسهرون كل الليل ويعملون بهمة عالية لينجزوا أعمالهم، إضافة إلى افتقارنا للشباب بطاقاتهم. فاليوم الوضع اختلف ولا يمكننا أن نرسل أبناءنا إلى الورشات كي يتعلموا الحرفة، كما يقال «من البابوج إلى الطربوش»، بداية من كنس الورشة، هذا الأمر سيؤدي إلى انقراض الحرف اليدوية بالعموم، فنحن لا نملك الوقت الطويل، وهذه مسؤولية الدولة بمؤسساتها المعنية، والتي عليها أن تنشئ معاهد متخصصة وأن تؤمن للخريجين فرص عمل، وتأمين المواد الأولية التي ثمنها دائماً بارتفاع ضمن ورش معدّة وفيها كل الآلات اللازمة. وعلى صعيد شخصي في عملي موضوع اليد العاملة أصبح من الأمور المربكة حقا والتي تعرضني في كثير من الأحيان لمواجهة الضغط والقلق، لكون من يذهب من هؤلاء العمال الكبار في السن يترك فراغاً، وعلينا البحث الدؤوب عمن يحل محله ويكون بخبرته نفسها.
وأخيراً نحن نصنع هذه القطع ليبقى تراثنا السوري الدمشقي حاضراً مهما طال الزمن أو بلغت التحديات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن