قضايا وآراء

ما هو أخطر من «العديد»

| فارس الجيرودي

«أنت حليف عظيم، وساعدتنا في تأسيس وتوسيع منشأة عسكرية رائعة فريدة على مستوى العالم (قاعدة العديد)، وحسبما أفهم، تم ذلك من خلال استثمار 8 مليارات دولار، والحمد لله كانت أغلبها من أموالكم وليس أموالنا، في الواقع الأمر أفضل من ذلك، حيث كانت كلها من أموالكم».
بهذه الكلمات استقبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، في زيارة أعلن فيها عن استثمارات قطرية في البنية التحتية للولايات المتحدة، وعن عقود أسلحة أميركية وطائرات بوينغ بما مجموعه 185 مليار دولار، ما سيوفر حسب ترامب ملايين فرص العمل للأميركيين.
لكن قاعدة العديد التي تعتبر أكبر قاعدة عسكرية أميركية خارج الولايات المتحدة، والتي كانت منذ تأسيسها منطلقاً للعمليات الجوية الأميركية في منطقتنا، العمليات التي حصدت حسب الاعترافات الأميركية حياة عشرات الآلاف من المدنيين في كل من سورية والعراق وأفغانستان وباكستان واليمن، ليست هي الجزء الأخطر في الدور الوظيفي الذي أدته إمارة قطر في خدمة المصالح الأميركية خلال العقدين الماضيين، بل يمكننا أن نقول بكل ثقة إن تأثير الآلة الإعلامية الضخمة التي أسسها نظام آل ثاني، والتي سُخِرت من أجل شن أشد الغارات تخريباً على الوعي العربي، كان أكبر بكثير من أي عمل عسكري أميركي، أو أي غارات انطلقت من العديد.
حجزت قطر لنفسها مكاناً مهماً في الوعي الجمعي العربي من خلال قناة «الجزيرة» التي أسستها في منتصف التسعينيات، والتي تمتعت بدعم مالي قوي، وبهامش من الحرية والتنوع، الغرض منه منع المشاهد العادي، من ملاحظة أي توجه سياسي للقناة.
ثم ما لبثت قطر أن تلقفت بدايات الحراك الشعبي العفوي في كل من تونس ومصر، مقدمةً نفسها في دور الراعي لأزهار الربيع العربي البازغة، واستطاعت في ظل غياب التنظيم الثوري قيادة الانتفاضات العربية وتحديد أجندتها وأهدافها، بل التحكم بخط سيرها منتقلةً من بلد عربي لآخر.
ثم دعم نظام آل ثاني في مرحلة لاحقة «قناة الجزيرة» بإمبراطورية إعلامية ضخمة مكونة من سلسلة من القنوات والصحف والمنصات الإلكترونية تتعدى كلفة تشغيلها ميزانيات الكثير من الدول في منطقتنا، وتم تذخير تلك الإمبراطورية بخلطة عجيبة من النخب العربية المثقفة التي جذبتها أعطيات الأمير، فانقلب كثير منها على مواقفه السابقة، وصرنا نرى الليبرالي ذا الهوى الغربي إلى جانب الإخواني الصريح مع اليساري التروتسكي، ويؤيد الجميع بالنتيجة التيارات الإخوانية تحت شعار الالتزام بالديمقراطية وخيارات الشعوب، حيث صارت حركة الإخوان المسلمين وتنظيمها العالمي حول العالم الذراع الحزبي للمشروع القطري في الشارع العربي.
لعل الإنجاز الأكبر لإمبراطورية قطر الإعلامية، كان السطو على مفهوم «الثورة» في وعي قسم كبير من شعوب المنطقة، وهو المفهوم الذي ارتبط منذ حركات الاستقلال من الاستعمار مروراً بجمال عبد الناصر وثورات المد القومي في الستينيات وصولاً للثورة الإيرانية، ارتباطاً وثيقاً بالتحرر من الهيمنة الامبريالية على منطقتنا، وبمواجهة قاعدتها العسكرية «إسرائيل»، والأنظمة الرجعية الوكيلة لها، إضافة لمواجهة مشكلة الخلل في توزيع الثروة وتهميش المرأة ودور الدين وغيرها، من التحديات التي تواجه أي مجتمع ينتقل نحو الحداثة.
لكن آلة قطر الإعلامية نجحت في استبدال كل ما سبق بقضية واحدة هي الصدام مع السلطة المحلية (النظام)، مع تناسي دور «النظام الأكبر»، أي منظومة النهب الدولي التي تقودها الولايات المتحدة، وتدير من خلالها الأنظمة الحاكمة في أغلب الدول العربية، فتم تحويل الثورة إلى مجرد صراع على من يؤدي دور الوكيل المحلي للسلطة الإمبريالية المهيمنة، وسرعان ما انحصر ذلك الصراع بين النخب الإخوانية المدعومة من قطر وتركيا، في مواجهة النخب العسكرية المدعومة من المحور السعودي الإماراتي.
وفيما يتحدث ناشطو الربيع المرتبطون بقطر اليوم عن اختطاف الثورات وحرفها عن مسارها، وذلك بعد أن استحال ربيعهم جحيماً وفوضى وأنهاراً من الدماء، فإن تخبط «الثورة» بدأ في الواقع مبكراً من خلال ما بذلته قطر عبر ذراعها الإعلامية «الجزيرة» ومن خلال النخب الإخوانية المرتبطة بها، من جهود لاحتواء التحركات الشعبية العفوية في تونس ومصر من بدايتها، والعمل على استبعاد قضية التبعية لإسرائيل وأميركا من وعي شعوب انتفضت أصلاً وفي ذهنها مواجهة أنظمة مدعومة من واشنطن ومطبعة مع إسرائيل، ومن المفيد أن نتذكر هنا اقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة عام 2011 من المتظاهرين المصريين.
كما أن اختطاف «قضية الثورة» مرّ من خلال رفض التمييز بين أنظمة تواطأت مع المشاريع الصهيونية والأميركية في منطقتنا، وبين الدولة السورية التي خاطرت بوجودها من أجل أن تكون المقاومة الشعبية في فلسطين ولبنان والعراق قوية وجاهزة لاستنزاف تلك المشاريع وإسقاطها، وتمثل الانحراف أكثر ما تمثل وضوحاً، من خلال حصر الأجندة الثورية بتنحي الحاكم الفلاني، وكأن أبواب النعيم ستفتح بمجرد تنحيه أو إسقاطه، وهنا انتهت «الثورة» وبدأ الضياع والفوضى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن