ثقافة وفن

بائعاً وقارئاً وكاتباً وشاعراً وصحفياً وباحثاً وممثلاً … صلاح صلوحة.. بائع الهريسة الذي أصبح «شيخ الورّاقين» … لديه تجربة في كتابة الأدب الساخر بدأها بـ «كشكول الوراق» ثم «رسائل الوراق»

| وائل العدس

غادرنا يوم السبت الماضي صلاح صلوحة الملقب بـ«شيخ الورَّاقين» عن عمر ناهز السبعين بعد رحلة طويلة تجاوزت الخمسين عاماً، قضاها بين الكتب والصحف والمجلات القديمة، بائعاً وقارئاً وكاتباً وشاعراً وصحفياً وباحثاً وممثلاً.
كان صديق القراء أينما حلّ، ولعل انتقاله صغيراً من بيع الحلويات مع والده، إلى الاهتمام بالكتب والمجلات والوثائق النادرة، ترك حلاوةً في روحه، نقلها إلى كل هواة القراءة، والباحثين عن المعرفة، وسائليه عن مفاتيحها.
تهجيره من الحجر الأسود بسبب الإرهاب، أجبره على الانتهاء إلى بسطة متواضعة تحت جسر السيد الرئيس بدمشق كما بدأ، في إصرار على رفقة الكتب والمجلات القديمة والمعاجم، والمحافظة على أرواحها وإزالة آثار الزمن عنها.

إلى جانب بيع الكتب شارك صلوحة ضمن فيلم «الليل» للمخرج السوري محمد ملص، كما عمل في أكثر من عمل تلفزيوني، وساهم في أكثر من معرض للتوثيق الوطني، كما له مجموعة من المقالات في بعض الصحف المحلية.
وكان يتوق لأن يكون لديه «مال هارون» و«صبر أيوب» و«عمر نوح» ليكمل رحلته الممتعة مع الكتاب، لكن الحرب الإرهابية على سورية كانت أقوى من تحقيق حلمه.
قد يكون آخر وراقي دمشق، إنه السبعيني الذي كانت بداية رحلته مع الورق في أواخر خمسينيات القرن المنصرم لتبلغ ذروتها في ستينيات وسبعينيات وثمانينات القرن المنصرم قبل أن يدخل (الكومبيوتر)، كما يقول معلقاً: «إنني أكرهه ولا أطيقه. لقد أصابني بخيبة أمل كبيرة وجعلني مهمشاً في هذا الزمن – لقد أنهى الكومبيوتر رحلتي مع الورق وجمع الصحف وتوثيقها وكذلك جمع الكتب القديمة».

من دمشق إلى العالم
الراحل من مواليد حي باب سريجة بدمشق عام 1948، درس إلى الصف الرابع في مدرسة حي الشاغور، وبسبب هروبه المتكرر من المدرسة لكونه كان يشارك في مسيرات أيام الوحدة، إضافة إلى المشاغبة في صفوف الدراسة تم فصله من المدرسة، ما أدى إلى اتجاهه نحو العمل مع والده الذي كان قاسياً عليه في كثير من الأحيان، وكان والده يبيع «الهريسة» على عربة متنقلة في شارع خالد بن الوليد، حينها أصبح يبيع «الهريسة» وحده وأصبح يجول في كل أنحاء دمشق فتعرف على حاراتها وأحيائها، وقتها كان لديه هواية قراءة الكتب إذ كان يقرأ الكتب على عربة بيع «الهريسة» وهو مستمتع جداً بها، وبعد فترة من الزمن هرب من البيت بسبب قسوة والده، وهنا بدأت قصته مع الرحلات.
بعد هروبه من البيت سافر إلى كل المحافظات السورية، وعمل وقتها في الكثير من الأشياء، ولم يستمر وقتها في أي عمل، ما دفعه إلى السفر إلى بيروت التي عاش فيها فترة كبيرة من الزمن جعلته أكثر وعياً وتجربة، وكان عمله وقتها موزعاً للصحف في «دار الصياد» التي كانت ملاذه الوحيد، ويذكر أن مدير التوزيع في الدار هو من ساعده في الحصول على العمل، وبعد وقت أصبح هذا الرجل الأب الروحي إليه، فهو الذي مد يد المساعدة له، فآواه من الشارع واستضافه في منزله لوقتٍ طويل، وذكر أن هذا الرجل كان يملك في بيته مكتبة كبيرة تزخر بكل أنواع الكتب، وفي الوقت الذي كان يقضيه بالمنزل يتصفح الكتب الموجودة في المكتبة، وفي هذا الوقت نسي كل عذابه وتشرده وقسوة والده عندما كان يمنعه من قراءة الكتب على عربة «الهريسة».
خرج من بيروت بعدما اشتدت الحرب الأهلية فيها إلى دمشق ثم إلى مصر التي عمل بها أيضاً بائعاً للكتب والمجلات، ووقتها لم يجد صعوبة في الحصول على هذا العمل في مصر لأنه كان صاحب خبرة وتجربة كبيرة بهذا المجال مقارنة مع الأشخاص الذين لم يعملوا بهذا المجال من قبل، وبعد مصر ذهب إلى تونس وليبيا ثم المغرب الذي عن طريقه سافر إلى إسبانيا وقضى فترة أشهر بها لم تدم بسبب قصة طريفة، فوقتها تعرف إلى شخص هناك وقام بدعوته إلى مأدبة طعام كبيرة جداً، حيث ذكر وقتها بأن هذه المأدبة كانت في أهم فندق في مدريد، وبعد انتهاء الأكل هرب من الفندق الشخص الذي دعاه وتركه وحده دون أن يملك ولو نصف المبلغ الذي طلب وقتها أجرة للمأدبة، ما دفعهم للاتصال بالسفارة السورية في مدريد، لطلب المبلغ وبسبب هذا الموضوع عاد إلى دمشق وأنهى فترة الترحال، ووجد نفسه فعلاً في سورية وافتتح مكتبة ضخمة تقدم الكثير من الخدمات لكل من يأتي إليها.
بالعودة إلى البدايات لم يكن قد تجاوز سن الحادية عشرة عندما بدأ العمل برفقة والده في بيع حلوى «الهريسة»، وقتها كانا يشتريان الكتب والمجلات والصحف القديمة ليلفوا بها قطع الهريسة، لم يكن هناك وقتها مناديل ورقية أو ورق أو أكياس خاصة للف مثل هذه الأشياء، وكان الزبون بعد تناوله قطعة الهريسة يتخلص من الورقة ويرميها في الشارع.
في أحد الأيام استوقفه أحد الزبائن ليشتري الهريسة، فلفت نظره كومة الصحف والمجلات القديمة على العربة، فطلب شراء بعضها لأنها كانت بنظره مهمة جداً، كان من المثقفين المهووسين بجمع الكتب والمجلات القديمة، ووجد ضالته في هذه الكومة التي لم تكن تعني له وقتها سوى أوراق للف الهريسة.
من وقتها بدأت علاقته مع الورق، فقد لفت الرجل نظره لأهمية ما تحويه الكتب والمجلات القديمة من علم ومعرفة، وأصبحت القراءة هاجسه، فصار يقرأ كل ما يصل إلى يده منها قبل أن تذهب هدراً إلى قارعة الطريق، وأصبح يميز من هذه الكتب والمجلات ما هو مهم وما هو أقل أهمية.
بعدها اتجه للمتاجرة بالكتب ليكسب بعض المال لمساعدة والده، ومن خلال تعامله مع مختلف نوعيات المثقفين، اكتسب خبرة في مجال بيع الكتب والصحف والمجلات والدوريات القديمة، وصار يميز من خلال ما يسألون عنه ويطلبونه من أعداد وعناوين، المهم والمهم جداً والنادر، وماذا تعني طبعات وأعداد أولى، وصار يبحث عن كل ما هو قديم وقيِّم، يشتري كل ما يجده ثم يحمله إلى شارع النصر وسط دمشق، يبسط حمولته الثقافية على الرصيف لبيعها. كان ذلك قبل أن ينتقل باعة الكتب القديمة إلى سوق الصالحية الشهير لبسط ما يحملونه على أرصفة السوق وواجهات المحال يوم الجمعة، فقد كان هذا السوق بسبب باعة الكتب القديمة يتحول يوم الجمعة إلى ما يشبه «سوق عكاظ» يقصده الشعراء والأدباء والمثقفون من كل الاتجاهات.
عمل في بيع الكتب في سوق الصالحية في منتصف السبعينيات ويذكر وقتها أن المثقفين والأدباء كانوا يقصدون سوق الصالحية ليس لشراء الكتب فقط، فقد كان هناك مقهى قديم في وسط السوق كان ملتقى النخب الثقافية، وقتها كان مجرد بائع كتب شاب له أحلامه الصغيرة، وكلما كبر كانت أحلامه تكبر بتشجيع من هؤلاء الأدباء والشعراء الذين كانوا أهم زبائنه.
فقد صار حلمه أن يصبح أديباً أو شاعراً مثلهم، ويذكر كيف كانوا يشجعونه على تحقيق أحلامه، منهم الشاعر اليمني الراحل عبد اللـه البردوني وممدوح عدوان وسعدي يوسف وشوقي بغدادي، وغيرهم من الشعراء والأدباء العرب. واستطاع أن يكوّن صداقات جيدة معهم.

في الأدب الساخر
وكان لدى صلوحة تجربة في كتابة الأدب الساخر بدأها بمخطوط «كشكول الوراق»، وهو مجموعة نصوص قصصية وشعرية تعبر عن تجارب حياتية عاشها، والثاني بعنوان «رسائل الوراق» وهي رسائل أدبية إلى الأهل والأصدقاء كتبها أثناء تجواله في العالم.
وكتب في مقدمة كتابه الأول ملخصاً حال الاهتمام بالكتاب اليوم: «إلى زوجتي التي لا تحب من الكتاب إلا غلافه، إلى أولادي الذين لديهم مكتبة كاملة للأطفال ولم يمسكوا قصة واحدة لقراءتها، إلى القراء الذين لديهم هواية جمع الكتب من دون أن يقرؤوها، إلى الذين يفاخرون بعدد الكتب المطبوعة لهم من دون أن يقرأها غيرهم، أهدي لهم كتابي هذا ليزيد كتبهم الموضوعة فوق الرفوف».

مستر غوغل
لم يكن يخفي استياءه من منافسة الكتاب الالكتروني، وموقع غوغل لجمهوره من القراء، إلا أنه، في المقابل، يراهن على انتصار الكتاب الورقي، في نهاية المطاف، رغم أنه انتسب إلى موقع الفيسبوك بصفحة تعتني بالكتب والقراءة.
وفي أحد تصريحاته قبل عدة أعوام قال: «أعتز بمهنتي كوراق التي أعتبرها هواية أكثر منها حرفة وعملاً، وهي قديمة قدم الكتابة والخط والنسخ، ولكن (الوراق الجديد) غير موجود في هذا العصر، للأسف الوراقة كمهنة انتهت بالفعل مع عصر التقنيات الحديثة والكومبيوتر والإنترنت وتحول ما تبقى من وراقي دمشق وهم قلائل إلى موثقين وإلى إقامة المعارض وطباعة الموسوعات لمقتنياتهم ليطلع عليها الناس، فهؤلاء وفي السنوات القليلة الماضية هزمهم الوراق العصري الحديث (مستر غوغل)، إنها نكتة ساخرة ولكن هذا هو الواقع، فلم يعد هناك الوراق الناسخ والمصور. انتهى دورهما مع انطلاق عصر الإنترنت كما انتهى من قبل دور الوراق الكاتب بخط يده مع بدء عصر الآلة الكاتبة.
وأضاف: «منذ هزيمتي أمام الكومبيوتر و(غوغل)، لم أعد شيخاً للوراقين ولا حتى وراقاً. إن ذلك القارئ الجيد الذي كان موجوداً في ثمانينات القرن المنصرم، لم يعد موجوداً حالياً، لقد انتهى عصر الكتاب.. وحالياً أعمل في البحث والتوثيق ولدي أبحاث عن العادات والتقاليد والأمثال الشعبية ولدي مشروع لتوثيق صحافة الطفل في العالم العربي ونشر كتاب حولها».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن