صناعة الفيلم بالنسبة لي هي إعادة إنتاج الحياة كما أراها … جود سعيد لـ«الوطن»: لا أصنع فناً يقدم أجوبة أو فناً يحقق رغبات المتفرج بل أصنع ما يشبهني
| سارة سلامة- تصوير: طارق السعدوني
يثير المخرج جود سعيد بأفلامه جدلاً واسعاً من خلال جرأة في طرح الموضوعات وقوة في انتقاء الشخصيات في عين يستكين فيها الضعف ويهزم القلق. يحاول مراراً تصوير الحياة كما يراها بتفاصيل تشبهه، لا يخرج إلى عوالم بعيدة فهو ابن هذا الزمن عاش السلم وعاش الحرب، انبثق من الناس، استشف جراحهم في يوم حينما اختار دراسة الإخراج السينمائي ليكون في معبد عشقه يحاكي ويوثق تاريخ المرحلة.
تقترن شخصية ذلك المخرج الشاب بقوة وصلابة وثقة وبحث لا يهدأ، ويأخذنا في عينيه الخضراوين إلى عوالم أكثر جمالية وواقعية فنراه يحمل قضية ويدافع عن كينونة في وقت تكتسي أفلامه بحرب ورومانسية، فيخرج حباً صادقاً من أفواه البندقية.
من أفلامه: «مرة أخرى، صديقي الأخير، مطر حمص، بانتظار الخريف، رجل وثلاثة أيام، درب السما»، نال العديد من الجوائز على الصعيد المحلي والعربي والدولي، وينتظر قريباً عرض كل من فيلمي «نجمة الصبح» و«درب السما».. التقيناه للحديث مطولاً عبر هذا الحوار..
برأيك لماذا غابت السينما السورية عن التتويج في المهرجانات المهمة؟ وهل تحارب بصفتها قطاعاً مثل باقي قطاعات الدولة؟
النتاج السينمائي السوري وخاصة نتاج المؤسسة العامة للسينما شبه ممنوع من المشاركة في بعض المهرجانات الأوروبية، وهناك حوادث واضحة آخرها منع عرض فيلم «رجل وثلاثة أيام» ضمن مهرجان السينما العربية في باريس لأسباب سياسية. مشكلتهم كما يدّعون مع السلطة وليس مع الأفلام، وعلى أساس ذلك لا يقبلون أي وجهة نظر أخرى، وفي الوقت نفسه هناك مهرجانات أوروبية صغيرة إلا أن القائمين عليها لديهم وجهة نظر مغايرة ويستمعون للجميع.
تعتبر ابن الحرب.. متأثراً ومؤثراً فيها، كم كان لك دور في رسم خطوطها سينمائياً؟
دخلت إلى الحرب بفيلمين اثنين أحدهما استطاع أن يحقق حضوراً عربياً على الأقل جيداً جداً ولم أبتعد عنها، ومثل كثيرين من صناع الفن أثّرت فيّ الحرب وتأثرت بها وبالطبع لم نصب في كل ما قدمنا، لأننا في النهاية بشر عاطفيون ولا نستطيع تحكيم العقل في كل ما نفعله. وأعتقد أنني كنت صادقاً ومؤمناً بقناعاتي ولم أحاول تزييف لحظة ما، لمصلحة رأي سياسي، وكل موضوع تناولته فيه جزء يمسني عاطفياً.
هل من الضروري أن تكون الأفلام تشبه صانعها أو تحمل رسائل عنه؟
أفلامي تحمل شحنة عاطفية تشبهني كحالة الفقد الموجودة عند كل الشخصيات. ربما هي التيمة الرئيسة منها فقد الحبيب وفقد الأهل.. ، والزمن هو من سيحكم على تلك التجارب مستقبلاً. ولست من الأشخاص الذين يقدمون رسائل، صناعة الفيلم بالنسبة لي هي إعادة إنتاج الحياة كما أراها، وإنتاج العلاقات بين البشر أو تصويبها هو محاولة لسرقة المشاهد من واقعه إلى عالم متخيل ومفترض لنترك مساحة للتفكير والأسئلة، لا أصنع فناً يقدم أجوبة أو فناً يحقق رغبات المتفرج بل أصنع ما يشبهني.
تمارس الإخراج والكتابة.. إلى أي حدّ أثر ذلك في أسلوبك ولغتك السينمائيّة؟
بحكم دراستي للإخراج السينمائي في فرنسا كان هناك شيء ما دون الشهادة يسمى كتابة السيناريو، باعتبارهم أن المخرج الذي لا يعرف الكتابة ليس مخرجاً. وبالنسبة لي لا أصنع فيلماً من دون أن أكون إما شريكاً في الكتابة وإما صاحب الفكرة. وقصة الشراكة هنا ممتعة جداً لأن عملية الحوار الذي يتحول إلى كلام مكتوب تضيف للفيلم وتوسع آفاقه، ولو كنت أعمل وحدي لربما وقعت في تكرار المعالجة الدرامية. كما أن تحويل الكتابة إلى صور وأصوات تميز أسلوب كل شخص، وأعتقد أنه بعد 7 أو 8 أفلام أصبحت الناس قادرة على تمييز أفلامي ولو لم أضع اسمي عليها.
دراستك للرياضيات والهندسة كم لها دور في إكساب أفلامك محتوى مهماً من حيث الشكل؟
مسابقات السينما في أوروبا وتحديداً فرنسا تشترط البكالوريا العلمي، وجزء من المسابقة رياضيات وفيزياء وكيمياء، من هنا أرى أهمية دراسة الهندسة لأنها تنمي عند الإنسان آلية تفكير معينة، والرياضيات تحديداً تجعل المخ يتحرك بطريقة تختلف عما يفكر به الآخرون وأظن أنني أخذتها معي إلى السينما.
أول فيلم قصير بعنوان (مونولوج) عام 2007 ماذا تغير فيك منذ ذلك التاريخ إلى اليوم؟
12 عاماً عمراً و12 عاماً تجربة سواء في الحياة الخاصة أم المهنية. أصبحت أقل شجاعة وأكثر هدوءاً، الصبغة النفسية لشاب بذلك العمر تختلف عن الصبغة النفسية لشخص في آخر الثلاثينيات. ولكن الشغف في السينما ما زال نفسه وربما ازداد.
هل تكون حراً في العمل مع المؤسسة العامة للسينما لكونها مؤسسة رسميّة؟
هامش الرقابة في سورية متدنٍ وهذا ينسحب على كل الأماكن التي يصنع فيها الفن، وتعتبر المؤسسة من الأكثر تسامحاً. الرقابة هي نوع من الوصاية القاصرة لن تفضي إلى شيء، وهناك نقطة أخرى أسوأ بكثير من رقابة دائرة المصنفات الفنية (الدولة)، وهي الرقابة المجتمعية، لأنها تدل بكل أسف على انحدار الذائقة وعنف شديد داخل مكونات المجتمع تجاه كل من يخالفهم في الاعتقاد. وهذا الموضوع يفترض أن نعود به إلى وزارة التربية ومؤسسات تأهيل الطفل في المدرسة، لأن ما نشهده أزمة أخلاقية عامة، ومن واجب الفن أن يتصدى لها لأن من أدواره نشر الجمال في المجتمع، حتى جمال القباحة. ومن هنا يفترض الاستمرار في تناول موضوعات الحرب أو آثارها.
هناك عدد من الأفلام تم إنتاجها في القطاع الخاص وحققت جماهيرية.. لماذا لا تتوجه للقطاع الخاص؟
هذا السؤال يضحكني لأنني منذ فترة لم أعمل مع المؤسسة. وبكل تأكيد لن أتوجه للقطاع الخاص وأدق أبوابه لكي ينتج لي.. هذا كلام معيب بحقي، يجب على القطاع الخاص أن يمتلك مشروعه، وأفلامي أغلبها أنتجت من خلال شراكات مع المؤسسة، مثل سورية الدولية في «مرة أخرى» وفردوس دراما في «صديقي الأخير»، وهناك «أدامز بروداكشن» شريك في «مطر حمص» وأيضاً في «درب السما»، وأول فيلمين لم يكونا من إنتاج المؤسسة. عدا ذلك من حقي قانونياً عمل فيلم سنوياً ولا يستطيع أحد أن يشتمني بفيلمي أو بنتيجته فنياً لذلك يبحثون عن أشياء أخرى.
كثيرون يعتبرون أنهم لم يأخذوا فرصتهم في العمل مع المؤسسة!
المؤسسة تفتح أبوابها على غير موظفيها ولا يحق لأحد أن يتقدم لها ما لم يملك شهادة، وقبل خمسة عشر عاماً كانت القوانين صارمة وممنوع على أحد أن يصور لقطة ما لم يعادل شهادته في وزارة التعليم العالي.
إذاً لماذا تتم مهاجمة المؤسسة؟
المؤسسة مستباحة مثل كل قطاعات الدولة تحت هذا الظرف الذي وصلنا إليه وأصبح أي جاهل يستطيع إعطاء رأيه.
ما رأيك بانغلاق أعمال السينما في سورية على موضوع الحرب؟
لن ننتهي من موضوع الحرب، هناك جيل كامل طبع فيها، والحرب العالمية الثانية تجاوزت 7 سنوات وما زلنا إلى الآن نشاهد أفلاماً عنها. كما أن المؤسسة لا تجبر أحداً على اختيار موضوع معين، وأرى أن من واجبنا الدفاع عن هويتنا من خلال طرح هذه الأفلام، ولا يعنيني الآن تقديم فيلم عن الحب في السبعينيات. على الرغم من ذلك فإن الحرب لم تكن ظاهرة لدي بصورة مباشرة باستثناء فيلم «مطر حمص»، وفيلم «رجل وثلاثة أيام» يتناول آثار الحرب ولا يوجد فيه رصاصة واحدة، و«مسافرو الحرب» نجد وجود الحرب فيه بشكل كاريكاتوري لا يتضمن أي معارك. و«نجمة الصبح» الذي سيعرض قريباً هو عن آثار الحرب يتحدث عن خطف النساء وأقرب إلى «مطر حمص» أي رومانس الحرب. إذاً لم أصنع فيلماً حربياً بل صنعت أفلاماً عن ناس عاشوا في تلك اللحظة.
شهدنا مؤخراً تجارب للقطاع الخاص ما رأيك بها، وهل تشجعها؟
هذا شيء صحي ومهم ما دام يحرك الجمهور باتجاه الصالة ويحفز المستثمرين لإقامة صالات ويعيد للطقس السينمائي السوري شأنه. أشجع هذه التجارب بغض النظر عن الموضوعات التي تطرحها ولكن نتمنى من القائمين على صناعتها احترام الحد الأدنى من الشكل الفني وهذا بحاجة إلى القليل من الكرم. والتجربة لدينا ضعيفة لقلة الصالات والملوم الأول والأخير هو المستثمر، لأن الدولة ليس من واجبها إنشاء صالات، ولا أدري لماذا يعتقد المستثمر أن الاستثمار في صالة السينما خسارة. وخاصة أن القوانين تسهل عملية الاستثمار وتعفيهم من الضرائب لمدة 10 سنوات.
هناك الكثير من الأفلام التي رصدت وحاولت أن تصور الواقع السوري، برأيك هل نجحت في ذلك؟
إذا جمعنا كل ما صنع في الداخل والخارج بمسافة بيانية فيها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ولو لم نتفق مع بعض الأفلام، نجد مذهباً سينمائياً عاماً يشكل غنى، والزمن كفيل بتصفية أو إزاحة أو الإبقاء على الكثير من تلك التجارب، ولكن فنياً أعتقد أن التجارب الموفقة كانت قليلة في الداخل والخارج.
ماذا عن الشراكة الفنية في حياتك؟
في حياتي الفنية شراكات وليس شراكة واحدة مع أيمن زيدان ومحمد الأحمد وقبلهما عبد اللطيف عبد الحميد ولا أغفل شراكتي خلف الكاميرا مع «وائل عز الدين، وسامر رحال، وسيمون الهبر، ورؤوف ظاظا، ورنا عيد، ورشا نحار، وريا قطيش، والغالي المرحوم عقبة عز الدين»، وكل الفنيين الذين عملت معهم منذ عقد من الزمن، ويجمعني بالفنان أيمن زيدان مشروع وقناعة فنية وصداقة وأريحية بالحديث عن أي مشروع فني. ومن الطبيعي وجود ناس تشبه بعضها وتفكر بالطريقة نفسها وتنظر إلى الأشياء النظرة نفسها، وربما لا تكون متطابقة 100 بالمئة ولكن على الأقل هناك همّ مشترك.
إلى أين يمكن أن تصل هذه الشراكة؟
حتى نستنفد كل ما سنقوله معاً.
تطرقت في فيلم «مرة أخرى» إلى موضوع شائك، كم تعتبر الجرأة مهمة لصناعة التميز؟
بالنسبة لي تكمن عظمة الفن عند الدخول إلى الأماكن المظلمة، وجزء من تاريخنا القريب هو العلاقة مع لبنان، هذا موضوع تم دفنه من دون أن تحصل فيه قراءات خصوصاً من الجانب السوري على عكس الجانب اللبناني. لذلك فإن على الفن نكء الجراح التي لها تبعات دائمة كثيراً ما تطفو. «مرة أخرى» كان محاولة ضمن الحدود الرقابية المتاحة في ذلك الوقت، وكان لدي مشروع آخر عن الموضوع نفسه ولكن عندما بدأت الحرب ذهبت إلى مكان آخر.
اتهمت بأنك تتملق للسلطة في أعمالك، ماذا تقول في ذلك؟
الفنان دائماً ندّ للسلطة ولو أني أتملق لكنت اليوم في مكان آخر، علاقتي مع الأشخاص بمكان صنع القرار مبنية على الاحترام المتبادل. قناعاتي ليست تملقاً لأحد. وهذا السؤال يذكرني بقوة ما موجودة بداخلي، وأحد النقاد اللبنانيين قال لي مرة لو أن موقفك السياسي مختلف أو لم يعلن لكانت أفلامك عرضت بأهم المهرجانات واعتبرت معارضة للسلطة على صيغتها الحالية، لأن النقد والإشارة إلى مواقع الخلل عندما يكون من دون نيّات مسبقة وصادقاً حتى ممن ننتقده سيقف أمامنا باحترام كما انتقدناه باحترام.
مَن من الفنانين يمكن أن نراهم أبطالاً في أعمالك القادمة؟
لا أحب كلمة البطل وأستخدم بدلاً منها كلمة الشخصية الرئيسة، أو الدور الرئيس، وأفكر لاحقاً أن يكون الدور الرئيس لأنثى، هذا ما لم أقدمه من قبل. باستثناء مع سلاف فواخرجي. ولكن أتحدث هنا عن شخصية رئيسة أنثوية من دون الكثير من الشخصيات. حتى هذه اللحظة أميل إلى تصوير الحياة من وجهة نظر الذكور للأسف.
«نجمة الصبح» يقترب من عملياته الفنية النهائية، تحدث لنا عنه؟
من المفروض أن يكون جاهزاً خلال شهر ويتحدث عن قصة افتراضية بنيت على وقائع حرب اجتياح القرى في اللاذقية وخطف النساء، والشخصيات الرئيسة يلعبها كل من محمد الأحمد وحسين عباس ولجين إسماعيل وآخرين.
«مسافرو الحرب» أخذ جائزة مهرجان قرطاج، تحدث لنا عن الجوائز وماذا تعني لك؟
«مسافرو الحرب» كان الأكثر تتويجاً في الأشهر الأخيرة بأربع جوائز في قرطاج وجائزة أفضل فيلم عربي في شرم الشيخ، والجائزة التي أثرت فيّ هي لـ«رجل وثلاثة أيام» في مهرجان جنيف من خلال رسائل لجنة التحكيم على مواقع التواصل الاجتماعي، و«مسافرو الحرب» عرض كثيراً بأكثر من مهرجان. وأيضاً حقق أول مشاركة لفيلم سوري في مهرجان «ساو باولو» الدولي.
كيف تقيم تجربتك؟ وهل أنت راض عنها؟
لا أقيمها ربما أفعل بيني وبين نفسي، ولم أكن راضياً عن أي شيء في الحياة، أستمتع عندما أصنع التجربة وأراها بعين مختلفة حينما تنتهي.