ثقافة وفن

مقهى النوفرة بين الثقافة والذاكرة … الثقافة الشعبية وأثرها في النفوس جعل هذا المقهى الصغير علامة في دمشق القديمة

| أنس تللو

ليس أجملَ من جلسةِ صفاءٍ هانئة هادئة يمضيها المرء في عزلة فريدة يناجي فيها نفسَه أو يستمع إلى نجواها، أو يقضيها بين خلان وأسمار يطيب له حديثهم وتهفو نفسه لهم.
وليس أي مكان يعطيك هذا الجو الممتع كالمقاهي الشعبية المنتشرة في مدينة دمشق القديمة… تلك المقاهي التي تحمل الأمرين معاً، إذ فيها للعزلة والتأمل… وفيها أمكنة للتحادث وممارسة الألعاب الشعبية… ولعمري إن تلك الألعاب الشعبية (طاولة الزهر ــ الشدة ــ الدومينو…) فيها ما فيها من المتعة والجذب… وفيها من راحة الأعصاب وهدوء البال.

منذ أكثر من ستين عاماً وقبل أن يتوقف نهر يزيد (أحد فروع بردى عن الجريان) كانت في دمشق القديمة بحرة كبيرة فيها نافورة كبيرة تتدفق منها المياه كجدول رقراق يداعب الأبصار ويسبي القلوب ويضفي على المكان سحراً أخاذاً، وتصل إلى ارتفاع أكثر من أربعة إلى خمسة أمتار في بحرة مجاورة للمكان.
وقد باتت هذه البحرة العملاقة مزاراً لكل وافد إلى هذا البلد… وعلى طرف هذه البحرة تم إنشاء مقهى النوفرة الذي يتجاوز عمره خمسمئة عام.
ومما يثير الفضول اليوم أنه إلى جانب عراقة هذا المقهى وقدمه البعيد فقد حافظ على ملامحه دونما تغيير كبير رغم كل ما مر على دمشق من أحداث تاريخية.
حين ندخل إلى مركز ثقافي نشيط نجد أنفسنا محاطين بالثقافة الخالصة ؛ معارض، لوحات، محاضرات.
وحين ندخل إلى دار عرض للأفلام الكوميدية نجد أنفسنا مغرقين باللهو الكبير.
أما حينما ندخل إلى مقهى النوفرة فإننا نجد مزيجاً سائغاً وسطاً بين اللهو والثقافة…
فأرضه مازالت مرصوفة بأحجار البازلت السوداء… وجدرانه مازال معلقاً عليها لوحات تراثية قديمة يتجاوز عمرها المئة عام.
تلك الجدران التي تحمل من الذكريات العبقة ما لو روته لأدهشت الحاضرين.
وكم وكم مر على بابه وجلس في فنائه أناس وأناس لو اجتمعوا لشكلوا جمعاً كبيراً شدته رغبة اللهو والثقافة الشعبية.
أما موقعه فإنه يتميز بموقع إستراتيجي في مدينة دمشق، بل إنه يتوسط المدينة تماماً… وقد جعله موقعه الفريد هذا محطة لا بد أن يمر بها أي متجول في منطقة دمشق القديمة نظراً لأن جميع حارات دمشق تتفرع من عنده.
إذ يقع في حي النوفرة القديم العريق الذي كان يعتبر من محاسن مدينة دمشق، ويطل على الجهة الخلفية الجنوبية للجامع الأموي، ومن أمامه تتوزع حارات دمشق وتتفرع منها أزقة ضيقة تروي قصصاً وحكايات شعبية قديمة… وإن لكل قصة عبرة ولكل حكاية حكمة.
وإن ارتياد هذا المقهى والاختلاط مع رواده يمنح المرء ثقافة من نوع خاص… وهي لعمري ثقافة شعبية تراثية… وأي ثقافة.
إن هذه الثقافة الشعبية لهي أشد تأثيراً في النفوس وأكثر رسوخاً في الأذهان من تلك التي تقال على المنابر أو تكتب في الصحف والجرائد.
يتكون مقهى النوفرة من صالتين؛ داخلية تحوي عدداً من الطاولات يتجاوز عددها العشرين طاولة وتتسع الطاولة لأربعة أشخاص، يرتادها الوافدون على المقهى، وصالة خارجية فيها عدة طاولات منفردة يجلس على كل منها شخص واحد.
وقد كان المقهى على الرغم من صغر حجمه يعتبر القلب النابض لدمشق القديمة.
إن مقهى النوفرة في حقيقته أشبه بكتاب تراثي قديم، تطالع في صفحاته سير أولائك القصاصين الشعبيين والحكواتية وتقرأ على جدرانها حكايات دمشق القديمة.
وقد عاب- الكاتب الكبير- توفيق الحكيم على مدينة لندن حين زارها لأول مرة قلة المقاهي فيها… وكيف لا يكون وهو القادم من الشرق العربي الذي يضج بالمقاهي.
ومما يؤثر لهذا المقهى أنه حافظ على عادة الحكواتي القديمة… إذ ما زال الناس يجتمعون ليلاً للاستمتاع إلى قصص البطولة العربية كما يرويها الحكواتي الذي يتخذ مجلسه كل ليلة رمضانية من أجل رواية القصص الشعبية بفيض من خياله الواسع.
يتجدد الماضي في مقهى النوفرة حين يدخل الحكواتي ليقص أروع قصصه على مسمعٍ من أبناء سورية، وكذلك السياح الذين جاؤوا من كلّ حدبٍ وصوبٍ.
إن حكاية المقاهي في دمشق حكايةٌ عريقةٌ تمتدّ جذورها إلى ذلك الزمن الذي يسمونه (الزمن الجميل)؛ حين كانت تلك المقاهي تحتضن كبار الأدباء والشخصياتٍ المهمة التي كان لها دورها في عالم السياسة والفن.
إن ارتشاف كأس من الشاي الخمير في مقهى النوفرة يجعل المرء جزءاً من الماضي العريق، وكم تحلو هناك الكلمات والهمسات.
أن تعيش الماضي مرة أخرى ماثلاً أمامك؛ فإن هذه متعة لا تضاهيها متعة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن