قضايا وآراء

الفراغ المتجدد والصراع ضد القوى الصاعدة

| تحسين الحلبي

في الخامس من تموز الجاري نشر مدير مكتب مجلس العلاقات الخارجية الأوروبية في مدريد البروفيسور الإسباني «خوسيه إيغناسيو توريبلانكا» تحليلاً في مجلة المجلس بعنوان «أوروبا والأرض الحرام» يحلل فيه واقع التنافس بين الصين وأميركا على تعبئة كل منهما لنفوذه في الفراغ الجديد المتشكل في العالم.
ويبيّن أن «الأوروبيين يلاحظون الآن بقلق بالغ عملية التنافس المستمرة والمتصاعدة بين واشنطن وبكين في تشكيل عالم القرن الواحد والعشرين، ويتساءلون عن دورهم في هذه اللعبة الدولية وعن كيفية تجنب الوقوع داخل مجابهة تجري بين هاتين الدولتين الكبريين».
كان الأوروبيون بموجب ما يرى توريبلانكا، يعتقدون أن القرن الواحد والعشرين سيكون قرناً سعيداً ثم تبين لهم أن «هذا القرن قد يشهد حرباً قد تكون محتومة بين أميركا والصين وبخاصة لأن التاريخ الذي تتعلم منه البشرية يسجل أن 12 إلى 16 عملية تحول جرت فيه بين قوى كبرى في العالم انتهت إلى نزاع ولم يجر تجنب الحرب فيها بين هذه القوى إلا في أربعة تحولات فقط».
ويبيّن البروفيسور الإسباني أن وجود هذا التنافس الراهن بين كل من الصين وأميركا «مؤكد وهو الذي سيلعب دوراً رئيساً في تحديد شكل القرن الواحد والعشرين من دون أن تتأكد بعد النهاية التي سيصل إليها هذا التنافس المتصاعد، هل سيصل إلى حرب باردة جديدة أو إلى فرض مصالح دولة على أخرى والتسليم بها أو إلى تعايش سلمي أو إلى نزاع عسكري»؟
في مثل هذه المعادلة بدأ عدد من السياسيين الأوروبيين ورجال الفكر فيها يميلون إلى الإعداد لتبني سياسة تتجنب فيها أوروبا الانخراط بأي صدام عسكري يمكن أن يطرأ نتيجة هذا التنافس الذي بدأت تنضم إليه روسيا الاتحادية إلى جانب الشراكة والتعاون مع الصين، ويستشهد البعض بالدور المتوازن الذي اتخذته أوروبا في موضوع الاتفاق النووي مع إيران الذي وقعت عليه خمس دول كبرى زائد ألمانيا ثم حين انسحبت منه الولايات المتحدة بشكل أحادي لم تنضم دول أوروبا الموقعة عليه إلى الولايات المتحدة وحافظت على تمسكها به بأوجه متنوعة تقاربت فيه نسبياً مع الموقف الروسي والصيني.
ولذلك يبدو أن هذه التجربة الأوروبية غير المسبوقة في العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة ستشكل قاعدة تشجع الدول الرئيسة في أوروبا على اتباع سياسة لا تلتقي كلها مع السياسة الأميركية لكن المميز فيها هو عدم الاستعداد للانخراط في أي حرب إلى جانب الولايات المتحدة وبخاصة إذا كان مسرحها القارة الأوروبية.
فأوروبا تشكل واقع القرن العشرين فيها منذ بدايته في حرب التنافس الاستعماري بين القوى الكبرى عام 1914 ثم في حرب استكمال هذا التنافس في حرب عام 1939 على أنقاضها وولد في النهاية حرب باردة بين الدولتين الكبريين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية.
وفي وقتنا الراهن يشير المفكرون الأوروبيون إلى ما يطلقون عليه «حلقة النار» التي تحيط بأوروبا وتمتد من الوضع في سورية إلى الوضع في ليبيا واليمن وقد تتسع، بينما يغيب الدور الأوروبي المؤثر فيها وفي المنطقة.
في الحقيقة إن معظم الأوروبيين يلاحظون أيضاً أن إدارة ترامب اتخذت سياسة يزداد فيها صراحة تهميش الولايات المتحدة لأوروبا في السياسة الدولية ومحاولة أرغام قادة أوروبا على السير وراء السياسة الأميركية من دون أي هامش استقلال أو اختلافاً وهذا ما بدأت أوروبا بمعارضته والابتعاد عنه حين رفضت ألمانيا إرسال جنودها للحلول محل القوات الأميركية في شمال شرق سورية والقيام بدورها العسكري القذر ضد دولة ذات سيادة.
أصبح من شبه المؤكد أن أي صدام عسكري بين الولايات المتحدة وأي قوة كبرى لا يمكن أن تسمح أوروبا بوقوعه فوق قارتها، وهذا ما يرجح أن تكون ساحة الحرب المحتملة بين الولايات المتحدة وأي قوى كبرى أخرى هي آسيا بشكل خاص في هذا القرن الذي ستتشكل فيه مقاييس جديدة للعلاقات الدولية تقلل دور الهيمنة الأميركية في أغلب الاحتمالات سواء بفضل مفاوضات بين القوى الكبرى التي أصبحت متعددة أو نتيجة حرب باردة جديدة أو حرب عالمية تشعلها الولايات المتحدة خارج قارة أوروبا هذه المرة وتدفع في أغلب الاحتمالات هي بنفسها ثمنها في ظل ميزان قوة يحمل فيه الجميع ضد الجميع وسائل التدمير الشامل وهو أسوء ما يمكن أن يسجله التاريخ البشري الذي تجمعت فيه الإمبريالية الأميركية قرناً كاملاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن