قضايا وآراء

مطرقة فريدمان ومعول صاحب «عزازيل»

| عبد المنعم علي عيسى

الحدثان متآخيان، أو أن أحدهما هو ممهد للآخر، فالنتائج تقود إليها مقدمات تكون مبشرة بها أو هي ناظمة لمسيرتها في ترابط عضوي غالباً لا فكاك له.
عرضت قناة «ONTV» يوم 23 حزيران الماضي لقاء مع الكاتب المصري يوسف زيدان صاحب رواية «عزازيل» الشهيرة، وفيه قدم الأخير رؤيا «فانتازيا» تاريخية متقدمة ربما لم يسبقه إليها أحد، مما يشير إلى أن القيمين على إدارة هكذا نوع من المشاريع يرون أن ثقافة «كامب ديفيد» قد أينعت بل وحان وقت قطافها بالتزامن مع رصد حالة تهاو غير مسبوقة لدى شرائح واسعة من النخب الثقافية والسياسية على امتداد الشارع العربي من أقصاه إلى أقصاه.
ما قاله زيدان فيه الكثير مما يستحق التوقف عنده، إلا أن أخطر ما فيه هو قوله «إن المسجد الأقصى المذكور في القرآن الكريم ليس المقصود به المسجد الأقصى المعروف في مدينة القدس وإنما المسجد الموجود في منطقة الجعرانة التي تقع على الطريق المؤدي إلى مدينة الطائف في السعودية».
ما يهدف إليه زيدان من هذا القول كان العديدون في التاريخ الإسلامي قد سبقوه إليه من أمثال عبد الله بن أباض الذي قال بفكرة «خلق القرآن» في القرن الثاني الهجري وغيره كثيرون، والهدف المشترك لكل تلك المحاولات هو نسف التراث الإسلامي وإحلال آخر مكانه، والمؤكد أن عملية من هذا النوع، في حال نجاحها، سوف تؤدي إلى إنتاج أمة جديدة بتراث جديد يحمل مفاهيم وأفكار ورؤى مغايرة.
من يرقب جذور محاولة زيدان التي تعتبر بعد قفزته الأخيرة هي الأنضج، سيرى أنها تمتد إلى يوم 15 أيار 1971 الذي شهد ما يسمى ضرب «مراكز القوى» وهو التعبير الذي استخدم في حينها لتصفية إرث الناصرية الذي أعطى وصفة ناجعة لضرب مرتكزات الهيمنة الغربية على المنطقة عبر تشخيص دقيق يقول إنها ترتكز على أمرين اثنين أولاهما التجزئة وثانيهما هو البنى الاجتماعية والاقتصادية المتخلفة ثم أعلن حربه الضروس عليهما، وفي مرحلة متقدمة سيقول عبد الناصر إن تصفية مواقع الاستعمار لن تكون عملية مفيدة إذا ما اقتصرت حدودها على مصر، وإنها يجب أن تشمل جميع مواقعه في المنطقة، ومن المؤكد أن هذي النقطة الأخيرة كانت سبباً رئيسياً في «مقتل» الناصرية كنهج وربما جسداً، بالمعنى الحرفي للكلمة، في تكرار لتجربة كانت قد أدت إلى تكالب الغرب تجاه محاولة «محمد علي باشا» في النصف الأول من القرن التاسع عشر والتي كانت تصب في السياق ذاته.
فيما بعد ذلك جرت مياه كثيرة في نسغ النسيج الثقافي المصري من نوع إيقاظ التراث الفرعوني فيه ككابح أو موازن للتراث الإسلامي والقومي النامي عبر الرحم الناصرية، ولم يحصل الكاتب نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب إلا بعد مرور عشرة أعوام على إبرام معاهدة كامب ديفيد عام 1988 ومن خلال روايته «أولاد حارتنا» التي رصدت، فيما رصدت، «معاناة» الأقلية اليهودية في مصر، والمؤشر الأهم هو أنها كانت بمستوى فني هو دون الوسط قياساً إلى جملة روايات محفوظ التي احتوت الكثير مما يفوقها فنياً.
كانت المحاولات الغربية السابقة تنطلق من أن عزل مصر عن محيطها وتراثها سيجعل منها في موقع المحتاج للغرب، على حين أنها إذا ما كانت تعيش وسط محيطها الطبيعي فإن الغرب هو من سيكون في موقع المحتاج لها.
مثلت قفزة يوسف زيدان الأخيرة تطوراً خطيراً في المشروع الذي اقتصرت آفاقه السابقة على ملامسة تخوم المقدس التاريخي على حين مضى هذا الأخير نحو اقتحام المقدس الديني وذاك لوحده ذو دلالات أعمق بكثير من خطوات المشروع سابقة الذكر، ومن المؤكد أنها شكلت، وهي تستمد زخمها مما سبق، مقدمات أتاحت رؤية ذلك المشهد الذي شهدناه في مدينة القدس مؤخراً بالتزامن مع انعقاد «ورشة المنامة» في الخامس والعشرين من حزيران الماضي، وفيه ظهر السفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان رافعاً مطرقته ليهدم نفقاً يمتد من حي وادي حلوة في بلدة سلوان وصولاً إلى المسجد الأقصى وهو النفق الذي سيفضي إلى باحة هذا الأخير وكذا إلى قبة الصخرة.
ما كان ممكناً للحدث السابق أن يتم مهما اختلت موازين القوة العسكرية والسياسية بين أطراف الصراع، ووحده اختلال موازين الثقافة والتاريخ كان ممهداً لما حصل، والراجح هو أننا بانتظار المزيد من فعل الهدم بمعاول الثقافة في المرحلة المقبلة عبر هذا المنبر أو ذاك، إلا أن ذلك لا يمثل كامل الصورة فجزء كبير من هذي الأخيرة أخذ بالتبلور وهو يشد في اتجاهات أخرى وربما كان المعلم الأهم فيه هو ما قاله السيد حسن نصر اللـه أمين عام حزب اللـه في الذكرى 13 لحرب تموز منعشاً فينا آمالاً كان الظن أنها ماتت لدى الكثيرين «بحسب المنطق والزمن وليس بعلم الغيب لدينا فرصة لكي نصلي في القدس».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن