ثقافة وفن

القصور الأموية تحف معمارية في قلب الصحراء … العمارة الأموية كانت الجانب المدني لإغناء الحضارة وتنشيط الحياة في تلك المناطق

| المهندس علي المبيض

بنى الأمويّون العديد من القصور في بلاد الشام حيث ذكر بعض الباحثين ومنهم سوفاجيه أكثر من ثلاثين قصراً أمويّاً في بادية الشام تم بناؤها وفق طراز معماري واحد ومخططات متشابهة تتكون على الأغلب من مواصفات هندسية رئيسية موحّدة، والحديث عن قصور الأمويين وعمارتهم في سورية هي رحلة شائقة عبر الزمن تعكس أسلوب الإدارة المتبعة ومفاهيمها في تلك الفترة، فبعد أن توسعت رقعة الدولة الأمويّة والتي كانت دمشق عاصمةً لها واستقرت أركانها وعم الأمن والأمان في أرجائها وتنقل التجار بكثافة بين البلدان التي انضمت تباعاً للدولة الأموية في تلك الفترة واختلطوا بأهلها وتعاملوا معهم واطّلعوا على ثقافات وعادات شعوبها وطرق تجارتهم وعمارة مساكنهم وأساليب معيشتهم، وأصبحت الدولة الأموية محجّاً للعلماء والفلاسفة والأطباء واستقبلت عاصمتها دمشق والمناطق المحيطة بها ضيوف الدولة الرسميين من مختلف دول العالم ومن مختلف المستويات السياسية والثقافية والاقتصادية والعلمية وغيرها وتأثر السوريّون بالتيارات الجديدة الوافدة، وكما هو معلوم للجميع فإن السوري هو سليل حضارة عريقة ووريث تاريخ تليد ولديه إمكانية ومقدرة على استيعاب ثقافات وعلوم وتجارب الشعوب الأخرى والإضافة إليها والخروج بمنتج جديد يحمل شخصيته وثقافته وخبرته التراكمية التي اكتسبها من خلال تعاقب الحضارات والممالك التي مرت على هذه الأرض الطاهرة، ويرى بعض الباحثين أن الخلفاء في بدايات الحكم الأموي قد استخدموا بعض القصور الرومانية الموجودة في دمشق كما شيدوا قصوراً أخرى لكنها سرعان ما تهدمت واندثر أكثرها بفعل العوامل الجوية لكون معظمها قد تم بناؤه من مواد بناء ضعيفة المقاومة كالطين والآجر، ويذهب بعض الباحثين إلى رأي خالفهم فيه آخرون كما سنرى لاحقاً على اعتبار أن حياة الأمويين كانت قريبة العهد بالصحراء فقد دفعهم ذلك إلى الحنين لها واللجوء إليها بين الفينة والأخرى، ولذلك فقد قاموا بإشادة بعض القصور والمنشآت خارج العاصمة دمشق في بادية الشام ومناطق أخرى متفرقة ولا يزال بعضها شاهداً يحكي عظمة الفنون المعمارية العربية والحضارة والثقافة التي كانت سائدة كما توضح آلية إدارة دفة الحكم في العصر الأموي، ولا شك فإن بناء تلك القصور في تلك المناطق وبهذه الكثافة وعلى المحاور نفسها تقريباً لها أهداف ودلالات عديدة تندرج ضمن الفرضيات والتحليلات والدراسات التي أجريت حول هذا الموضوع:
فهي قد تكون قد بنيت للراحة والاستجمام والاسترخاء بعيداً عن ضوضاء المدينة وهرباً من العمل الرسمي اليومي حيث يقصدها الخليفة للتنزه والصيد، وهذا النوع من القصور كان يبدو الاهتمام واضحاً بتزيينها بالزخارف والرسوم النباتية والهندسية والصور والتماثيل.
وقد تكون بهدف التقرب من القبائل البدوية للاطلاع عن كثب على الواقع الاجتماعي والمادي والبشري فيها والتعرف إلى شيوخ العشائر ووجهائها والتواصل معهم وتقديم الدعم لهم من خلال حل مشكلاتهم وتلبية احتياجاتهم ومطالبهم المعيشية وبذلك يضمن ولاءهم بهدف تأمين طرق القوافل التجارية من الشام للجزيرة العربية وضمان سلامة وأمان الحجيج، كما أن إشادة القصور في مثل تلك المناطق يقوّي روابط الانتماء ويحثهم على تجنيد أبنائهم واستجلابهم إلى صف الأمير ضد الحركات التي كانت تهدد الدولة.
وقد يكون بناء القصور في تلك المناطق بهدف تشجيع ممارسة الأنشطة الزراعية فيها والتي تلبي حاجات معيشية ضرورية للمجتمع وتوفر فرص عمل لأبناء القبائل المحلية وتشكل موارد مهمة.
وقد تكون بهدف استقبال الخليفة للضيوف والقوافل الرسمية الخاصة به.
وتمثل القصور التي أبدع الأمويون في بنائها الجانب المدني بالعمارة الأمويّة والتي أثرت بدورها بشكل كبير على العمارة اللاحقة سواء في غرناطة أم في العراق وعموم المناطق التي بنى فيها العرب مبانيهم وشكّلت مدخلاً لما عرف فيما بعد بفن العمارة العربية الإسلامية ولم يتوقف ذلك بانتهاء الفترة الأمويّة بل تم الاستفادة مما تأسس وصولاً إلى الأندلسيين، والتحفة المعمارية الخالدة قصر الحمراء في غرناطة حيث كان ينظر هؤلاء إلى إنجازات أجدادهم الأمويين كموروث مهم جرى الاشتغال على أدق تفاصيله، كما تأثّر بطراز القصور الأمويّة معماريو شمال إفريقيا إضافة إلى ما قدمه الجامع الأموي في دمشق من أمثلة مبتكرة في العمارة حيث انتشر الطراز المعماري لمئذنة العروس على سبيل المثال وغدت فيما بعد نموذجاً للمآذن في شمال إفريقيا والأندلس وهي مئذنة أمويّة الجذور بناها الوليد بن عبد الملك في الجهة الشمالية للمسجد وتعتبر واحدة من أجمل المآذن المميزة بتكويناتها المعمارية.
وفي معرض الحديث عن القصور التي تمت إشادتها في العهد الأموي هناك عدة نقاط مهمة من الجدير ملاحظتها، منها أن هذه القصور قد تركز معظمها في الجهة الغربية الشمالية من بلاد الشام وبنسبة أقل في لبنان وفلسطين، وهنا قد يتساءل المرء لماذا لا نجد مثل هذه القصور في الأجزاء الجنوبية من الأردن وفلسطين أي أقصى جنوبي بلاد الشام على الرغم من امتداد سيطرة دولة الأمويين لتلك المناطق؟ نقطة أخرى لابد من الإشارة إليها وهي أنه على الرغم من أن مدة حكم الأمويين قصيرة مقارنة بحكم العباسيين إذ إن فترة حكم الأمويين امتدت نحو 90 عاماً تقريباً منذ (662 إلى 750) م على حين كانت فترة حكم العباسيين أطول منها بكثير إذ امتد العصر العباسي نحو 500 عام منذ (750 إلى 1258) م، إلا أن عدد القصور التي تم بناؤها خلال العصر الأموي أكبر بكثير من القصور التي تمت إشادتها في العصر العباسي، علماً أن الفترة الأمويّة لم تشهد إلا استقراراً نسبياً مقارنة بالفترة العباسية كما أن مساحة الدولة في العصر العباسي قد توسعت رقعتها وبسطت نفوذها بشكل أكبر وتم فرض الاستقرار في أغلب مراحل العهد العباسي وشهدت تلك الفترة ازدهاراً ونشاطاً تجارياً واسعاً وزادت مداخيلها وإيراداتها المالية، وهنا يبرز سؤال مهم، هل كان ثراء الدولة الأموية يزيد على ثراء الدولة العباسية؟ فالعباسيون كما هو معلوم أكثر ثراءً وإمكاناتهم أكبر ومع ذلك فإنهم بنوا عدداً أقل من القصور رغم طول المدة التي حكموها.
وللإجابة على هذه التساؤلات يجب البحث في أسباب ودوافع تشييد تلك القصور والتدقيق في تاريخ هذه القصور ونسبتها إلى الفترة الأموية والتي هي بحاجة إلى مقاربة لوضع بعض الحلول الافتراضية وليس بالضرورة الخروج بنتائج صارمة بل محاولة طرح كل المسألة بصورة عامة في ظل الالتباس القائم على مسألة تاريخ تلك الأبنية وخاصةً أنه لم يتفق الباحثون على وظائف تلك القصور وأسباب بنائها، فنجد عدة نظريات حول ذلك حيث أورد بعضهم أنها تتعلق بالصيد والزراعة وتعلم الفصحى وغيرها من دوافع البناء وأن الأمر قد يتعدى أن بناء بعضها أو الإقامة المؤقتة فيها كان سياسياً وذلك تقرباً إلى القبائل المنتشرة في بادية الشام، كما ذهب آخرون إلى أن الأمويين استخدموا تلك القصور كمقرات ريفية للنزهة والاستجمام بعيداً عن صخب المدينة، وقد ذهب سوفاجيه إلى أن المباني الثلاثين التي أحصاها ودرسها من الداخل والخارج، إنما كانت مراكز لمستقراتٍ زراعية أراد البُناةُ من خلالها إعمار بلاد الشام واستثمارها زراعياً، وتفيد بعض الدراسات أيضاً أن تلك القصور توظف ضمن منظومة دفاعية متكاملة لحماية بلاد الشام وتتمثل في أبراج المراقبة والتحصينات وشبكة الطرق والمراكز المسلَّحة وآبار المياه والقرى المحصَّنة لأن المقصود هو حماية الحواضر من هجمات البدو الذين كانوا يتمددون بمواشيهم ومراعيهم إلى الغرب من خط دمشق، ويذهب باحثون آخرون إلى عكس الرأي الأول من أن بني أمية ليسوا أهل بادية وإنما أبناء مدن وقد عنوا بالتجارة قبل الإسلام وبعده في مكة والمدينة، وعندما أقاموا في بلاد الشام أسّسوا خلافتهم فيها فكانت دمشق عاصمةً ومقراً لهم ولم تذكر الروايات عنهم أنهم سكنوا البوادي، وعليه فإنهم إن أرادوا البناء فسوف يبنون في المدن والأرياف، إذاً ما الفائدة التي سيتحصّلون عليها من بناء في البادية يكلف مبالغ كبيرة ولا يقيمون فيه إلا بضعة أيام في السنة؟ وربما يحق للمتابع في هذا الشأن أن يتساءل لماذا لم يقم الخلفاء الأمويون بوضع نصوص تأسيسية على عتبات مداخل هذه الأبنية وهذا من حق من بناه؟ وهل يعود السبب في ذلك أن بعض هذه الأبنية كانت قائمة في المراحل التي سبقت المرحلة الأمويّة وعندما حكم الأمويون بلاد الشام أعادوا استخدامها مرة ثانية؟
ويذكر بعض المؤرخين ومنهم الأصفهاني أن الغساسنة قد بنوا العديد من القصور في بادية الشام وقد ذكروا أسماءها وأسماء من بنوها، وهنا يرد تساؤل مهم وهو لماذا لم يذكر المؤرخون أسماء وأماكن جميع قصور بني أمية في بلاد الشام أسوة بالغساسنة؟ هل لأن الأمويين فعلاً لم يؤثر عنهم بناء تلك القصور المنسوبة إليهم حتى ترد في المصادر التاريخية؟ أم إن تلك الأبنية فعلاً هي أبنية غسانية ولم ينسبها المؤرخون لبُناة أمويين لعلمهم أنها لا تعود لهم؟ وهل هذه الأسماء الغسانية بحسب رواية الأصفهاني هي فعلاً أسماء لما نسميه اليوم الأبنية الأمويّة كجلق وأبير والقسطل والحفير وحارب وزرقا والجربا…

مستشار وزير السياحة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن