ثقافة وفن

عزف الموسيقا هو متعة للشخص ولمن يحيط به … باسم صالحة لـ«الوطـن»: أطمح للعالمية عبر موسيقانا السورية التي تعكس صورتنا الحضارية

| سوسن صيداوي

من النِعم أن يدرك المرء ما هو خير له، على الرغم من أنه لم يبلغ سن الرشد بعد… ومن النِعم أيضاً أن يمتلك قدرة عالية من التصميم والإرادة لمتابعة ما اختاره، الأخير الذي حلّ على قلبه نبضاً متناغماً وفق إيقاع أزهر مع الأيام، راسماً أفق أحلام وطموحات خطّت اسماً لامعاً ومهنة فيها من الاحترافية الكثير.
الكلام ننسبه للموسيقار باسم صالحة الذي تفتّحت مداركه على كل من النوتات والسيمفونيات والطرب الأصيل المتنوع والغني في المكتبة الموسيقية لمنزل العائلة. لقد تدرج على السلم الموسيقي صعوداً متقناً العزف على آلتي البيانو والكلارينت، مُنصتاً لملاحظات أساتذته ومتابعاً بنهم كبير للارتواء من النبع الإبداعيّ لشغفه اللامحدود في المعهد العالي للموسيقا بدمشق، مهملاً دراسة الهندسة في الجامعة كتحصيل علمي، خاضعاً بكل طواعية وإصرار، مهذباً ومروضاً لنزقه الداخلي المراهق نحو رتبة فنية لائقة ومشرّفة عبر نجاحات قطف ثمارها سواء بتقديمه مقطوعات موسيقية تولي الاهتمام بالموروث السوري الذي يعيد توزيعه كي يبقى في الذاكرة والوجدان، أو عبر مؤلفات موسيقية خاصة- توغل في عمق الكلاسيكيات- ومنها أيضاً مشاركات في مسلسلات دراميّة، هذا عدا مرافقته بالعزف المنفرد لأهم الأصوات والموسيقيين في الساحة العربية منهم على سبيل الذكر: ميادة حناوي، جورج وسوف، زياد الرحباني، ماجدة الرومي، جوليا بطرس، مروان خوري، كارول سماحة. للمزيد (الـوطن)حاورت الموسيقار باسم صالحة وتوقفنا معه عند الكثير من النقاط ومنها نذكر:

لماذا وقع اختيارك على آلتي البيانو والكلارينيت دون سواهما من الآلات الموسيقية؟
في البداية الآلة التي كانت متوافرة في المنزل هي «الأورك»، ومن بعدها انتقلت أوتوماتيكياً بالعزف على البيانو، الذي توطدت علاقتي به وتمتّنت بشكل كبير، كوني أعتبره كالأوركسترا المصغرة والأصوات الخارجة منه تكون متآلفة ومنسجمة بطريقة رائعة. بعدها اخترت الكلارينيت لأن تربيتي الموسيقية كانت تعتمد على الاستماع لمقطوعات أوركسترالية ولموسيقا الجاز، فأعجبت بهذه الآلة. ثم بعد حصولي على شهادة الثالث الثانوي انتقلت للاختصاص بالموسيقا في المعهد العالي، الذي كان حديث التأسيس، وهنا أحب أن أشير بأننا تعلّمنا وتخرجنا مجانا، هذا كما أمّنت لنا الدولة الخِبرات الأجنبية المتنوعة وأهمهم الأساتذة الروس المستقدمون من الخارج كي يقوموا بتدريسنا، وبالتالي هذا أمر نشكر دولتنا لإتاحته لنا وتقديمه للطلاب، فلو أردنا السفر للخارج من أجل الاختصاص، لكان الأمر مكلفاً للغاية.

في أثناء تربيتك الموسيقية.. إلى أي مدى كان الأهل مرنين في اختيار الآلات وحتى المقطوعات الواجب الاستماع إليها.. واليوم ماذا تقول للأهل- ومن وجهة نظرك-كأستاذ مدرس-من حيث تشبّثهم باختياراتهم بعيداً من رغبة الطفل وميوله الموسيقية؟
في الحقيقة إن لعائلتي الدور الأكبر في اهتمامهم بتنمية موهبتي وبتربيتي موسيقياً منذ الصغر، ولهم الفضل فيما أنا عليه اليوم، سواء من جهة- أولاً- حسن الإصغاء أو التذوق الموسيقي، حيث عوّدوني على أنماط معينة، عبر الاستماع لما تضمّه مكتبة منزلنا الموسيقية الحاوية على تنوع موسيقي كبير لأعمال فريدة، فمن موسيقانا العربية اعتدت الاستماع إلى عمالقة الزمن الجميل: كمحمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وردة، فايزة أحمد. وإلى ألحان القصبجي والسنباطي وبليغ حمدي، وأيضاً كمال الطويل. حتى إنني كنت أطلب من الأهل أن يُحضروا لي كاسيتات لأعمال موسيقية عالمية، فمثلاً كان أول عمل استمعت له هو «القدر» السيمفونية الخامسة لـ«بتهوفين»، وأيضاً لعدة مؤلفين منهم: ريتشارد شتراوس، وجورج بيزيه، ومن أعمال تشايكوفيسكي المشهورة «كسارة البندق وبحيرة البجع». هذا- من الجهة الثانية-جاء قرار الأهل بأن أتتلمذ على يد الأستاذ حمد أشتي في العزف على آلة البيانو. وبالطبع استطعت وأنا في المدرسة أن أحصل على الريادة على مستوى القطر، كما شاركت في العديد من مهرجانات اتحاد الشبيبة.
أما للشق الثاني من السؤال، فهنا أحب أن أشير إلى أن مجموع علاماتي في امتحان الشهادة الثانوية كان يؤهلني لاختيار فرع في كلية الهندسة-وهذه كانت رغبة الأهل-ولكنني كنت مصراً على أن أدرس الموسيقا في المعهد العالي، فمن وجهة نظر الأهل بأن أتابع دراستي وأحصل على شهادة جامعية وبأن تبقى الموسيقا في حياتي هواية، ولكنني خالفتهم الرأي وأخبرتهم برغبتي في أن تكون الموسيقا حياتي ومهنتي التي سأحترفها، وبالطبع من خلال التزامي وجدّي بتعلم الموسيقا، تمكنت من أن أغير وجهة نظر أهلي الذين ساندوني وشجعوني، وفي النهاية أثبت لهم بأنني كنت مصيباً بقراري.

حدثنا عن مدى صعوبة إعادة توزيع الموسيقا التراثية.. وبأن يتم ذلك مع إدخال آلات غربيّة.. من دون أن تخلّ بجوهرها أو بقيمة الموروث الموسيقي.
لقد قمت بإعادة توزيع للعديد من الأعمال التراثية، حيث أبدأ باختيار ثيمة معينة من الفلكلور السوري المتنوع بانتمائه لعدة محافظات، وفي بعض القطع الموسيقية أوصل الألحان، بألحان أخرى عن طريق ما نسميه «قناطر هرمونية»، أو أضيف إليها بعض الأمور كمقدمة ونهاية، مع رفدها بالتوزيع الموسيقي المتآلف والمنسجم الذي يليق مع هذا اللحن من دون تشويه للجوهر، وهذا ما أؤكده في مشروعي هذا.

قلت مرة بأنك ترغب في موسيقاك بأن تكون «حاملاً لتراث الشعوب ولغة لا تحتاج إلى مترجمين». ولكن هل يتماشى هذا المبدأ مع الربح التجاري الحاكم لترويج الأعمال الفنية بالعموم؟
أنا أؤلف الموسيقا التي أشعر بها ضمن ضوابط العلم الموسيقي الذي درسته واحترفته، ولا أكون منسجماً مع نفسي بأن أعمل على موسيقا مثلاً، لأغنية تجارية لمطرب أو مطربة، لأنني لست مقتنعاً بهذا الأمر، مع أنني عملت على توزيع العديد من الأغاني لمطربين ومطربات، لكنها فترة وذهبت لكونها كانت مجرد «بيزنس»، وهذا الأمر لا يتوافق مع رأيي بالموسيقا، فالأخيرة رسالة ولها معنى سواء قمت بتأليفها أو بتوزيعها، وبالتالي يجب أن تكون متضمنة لمعنى حسي، وفيها من التقنية الفنية ما يعكس براعة العازف.
أنت متمسك بأهمية التربية الموسيقية وبأهدافها.. لأنك بقيت ملتزماً لفترة أستاذاً لمادة الكلارينت والبيانو في معهد فريد الأطرش في «السويداء».. السؤال: اليوم إلى أي مدى الفنون يجب أن تُقحَم في السلوك التربوي لتطيّب الجيل السوري من آثار الأزمة؟
منذ بداية الأزمة وأنا- مازلت- رئيس قسم البيانو في معهد فريد الأطرش، وأدرّس الكلارينت فيه وفي المعهد العالي بدمشق، وبرأيي التربية الموسيقية مهمة للطفل لكونها تُنمي مخيلته وتقوي إدراكه، وتُبعده وخصوصاً الطفل الناشئ عن تفاصيل الواقع الأزميّ بما صدّرته الحرب لأبناء الفترة التي نتكلم عنها، إذاً الموسيقا تبعده عن كل ما هو سلبي، وتدفعه يومياً لاكتساب أمر جديد، وبالطبع الموسيقا هي من أرقى الفنون وأصعبها، وتحتاج إلى جهد فكري لإتقانها، وهذا يتطلب منه وقتا مستغرقاً. وفي النهاية العزف هو متعة للشخص وبمن يحيط به، كما ينشر ثقافة ما دامت الموسيقا المختارة راقية، وأيضاً هذه التراكمات ستخلق بصمة، ومع الزمن تراثاً للمنطقة والبلد.

قلت مرة «الانتشار في الخارج أسهل من الداخل».. برأيك هل السبب يعود لافتقارنا إلى شركات إنتاج موسيقية معنية بتقديم نجوم موسيقيين ومغنين؟
الواقع المؤسف بأننا نفتقر لشركات إنتاج، وهذا الأمر يعانيه المغنون والمطربون فما بالك بالموسيقيين. هنا أحب أن أوضح أمراً مهماً وهو أن موسيقانا مغناة منذ قديم الزمان وهي مرتبطة بالكلمة والغناء، وفي هذه المرحلة عندما قدم أي موسيقي محترف موسيقاه الموزعة وغير المغناة، لم يلق من يهتم بها، باستثناء شريحة معينة من الجمهور الذي يستهوي الإصغاء للموسيقا. ولكن اليوم هذه الشريحة اتسعت وازداد اهتمامها ومتابعتها، وهنا لابد من توجيه الشكر لهيئة دار الأسد للثقافة والفنون لكونها تتيح لنا فرصة تقديم موسيقانا المتنوعة:الكلاسيكية أو الرومانتيكية وحتى الشرقية على مسرح راق. أما للانتشار والإنتاج فهو أمر معقد، لأنه كما أسلفت الأمر يتعلق بالجمهور المهتم، وبالنسبة لي عندما قمت بإصدار ألبومي، أنا من تحمّل كل النفقات لافتقارنا لشركات إنتاج.

بما أن الدراما السورية تحتل مكاناً مهماً على الشاشات العربية.. ما رأيكم بموسيقاها.. وإلى أي مدى بإمكاننا استغلال الفرصة كي ننشر وعياً موسيقياً من خلال المسلسلات؟
السؤال الأخير: فيما يتعلق بالدراما السورية هناك بعض المؤلفين الموسيقيين الذين لهم بصمة مميزة وتبنى على العلم الهارموني وعلى الموسيقا الأكاديمية مع العودة للموسيقا التراثية وتوظيفها بحسب نوع المسلسل. وعن نفسي في هذا المجال، عملت به كثيراً، حتى إنني كنت أرتجل وأقدم الكثير من الأفكار خلال بعض الموسيقا الداخلة في المشاهد. وبالعودة للسؤال بالطبع هذا النوع يزيد من انتشار الموسيقا، ما دامت المسلسلات السورية مرحباً بها في كل الدول العربية والعالمية، وبالتالي موسيقانا تصل للجمهور، لكن بصراحة أنا أطمح للعالمية من خلال بصمة خاصة بالموسيقا وهي تحتاج إلى وقت وجهد كبير وللعمل كثيراً على كل التفاصيل المساهمة في خلق العمل.
وبالنهاية الموسيقا هي سفيرة بلدنا وهي تعطي رسالة حضارية وصورة جميلة عن سورية للعالم كله، وبقدر ما نكون مهتمين بثقافتنا الموسيقية ونعمل على الهوية السورية والألوان الموسيقية التراثية، ونقوم بتطويرها وإخراجها بطريقة جميلة، هذا الأمر سيعكس صورة بلدنا للعالم وهذا كله من خلال الموسيقا الراقية التي نعزفها ونؤلفها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن