من دفتر الوطن

عبيد عصر الكَمْ

| حسن م. يوسف

البارحة أبعد من أن يطال، أما المستقبل فمهما بَعُدَ فهو أقرب مما نتوقع. يعلم قارئي المتابع أنني كنت دائماً وما أزال أحترم العلم وأنظر إليه بوصفه المنقذ للبشرية من حماقات أبنائها، ومع أنني ما أزال أومن بهذه الإمكانية، إلا أن ثقتي بفرصة تحققها تضعف أكثر مع كل إنجاز علمي كبير يحققه البشر. فقد تطور النوع البشري عقلياً إلى مستويات غير مسبوقة، لكن ذلك التطور العقلي لم يقترن بتطور أخلاقي مكافئ له يوجهه ويضبط استخدامه، والذكاء اللاأخلاقي يرشح صاحبه ومَن حوله، لكثير من المعاناة والآلام. فالأذكياء اللا أخلاقيون أنتجوا حربين عالميتين كارثيتين، وهم منذ عقود ينتجون حرباً عالمية جَوَّالة ثالثة، يدفع فقراء العالم ثمنها بالتقسيط المريع.
لقد نجح غيلان البشرية في تحويل الأذكياء عديمي الأخلاق إلى خدمٍ لهم، وقد تمكن هؤلاء من تحويل التقدم العلمي والتقني إلى مخالب وأنياب لأسيادهم الذين يتمتعون بثروات العالم وخيراته، في حين يقومون هم بإشعال النيران في بيوت كل من يرفعون رؤوسهم ويفكرون بخير شعوبهم. وفي حين يفتك الفقراء ببعضهم في ساحات الحروب، يقوم الأذكياء الخَدَم بتطوير المزيد من أدوات التحكم العلمي لإحكام قبضات أسيادهم على عنق العالم.
قبل أيام كتب صديقي رائد البيطار لسان حال على صفحته في الفيس بوك أطلق قطيعاً من فئران القلق المشتعلة في رأسي لأنه يعني بكل بساطة تضاعف قوى الأقوياء وانكماش قدرات الضعفاء.
لديَّ على حاسبي المحمول صورة تم التقاطها عام 1956 أي قبل ثلاث وستين سنة، لقرص كمبيوتر صلب يتم تحميله في طائرة مدنية أميركية، وقد دون تحت الصورة أن الاستطاعة الكلية لذلك القرص الصلب هي 5 ميغا بايت أما وزنه فيبلغ أكثر من 2000 باوند. أي نحو 909 كيلو غرامات. ولن ندرك حجم التطور التقني الذي حصل منذ عام 1956 حتى الآن إلا إذا علمنا أن سعة الـ«ميني كارد» الموجودة داخل هاتفي المحمول تبلغ أربعة وستين ألف ميغا، وهذا يعني أن سعة الميني كارد التي لا يزيد وزنها على خمسة غرامات هي أكبر بـ12800 مرة من سعة ذلك القرص الصلب الذي يزن نحو طن!
والحق أن التطور التقني يتسارع وفق متوالية هندسية، ففي كل قفزة يصغر الحجم آلاف المرات، فيما تتضاعف الاستطاعة آلاف المرات! قد يحسب القارئ العزيز أنني أتحدث عن موضوع نخبوي لا يؤثر في لقمة عيشه ومستقبل عياله، لكن الحقيقة أن عالمنا مترابط، كل شيء فيه يؤثر في كل شيء.
في حزيران عام 2016 أعلنت الصين عن إنتاجها كمبيوتراً فائقاً Super computer اسمه «صنواي تايهولاي» صنف بأنه الأسرع في العالم، إذ بإمكانه إجراء 93 كوادرليون عملية حسابية في الثانية. والكوادرليون لمن لا يعرفه هو (مليون مليار). عندئذٍ غارت أميركا وفي شهر تشرين الثاني من العام الماضي، أعلنت شركة «آى. بى. إم» أنها نجحت في إنتاج كمبيوتر فائق باسم «سوميت»، يزيد وزنه على وزن طائرة تجارية، ويبلغ حجمه حجم ملعبي تنس تقريبا، بإمكانه إجراء 200 كوادرليون عملية حسابية في الثانية. وهو عبارة عن 9000 معالج كومبيوتري متصلة بعضها مع بعض.
وقد أشار صديقي رائد البيطار قبل أيام إلى أن شركة غوغل قد تمكنت بالتعاون مع وكالة الفضاء الأميركية «ناسا» بتحقيق ما يسمى Quantum supremacy أو التفوق الكمي، باختراع كمبيوتر يعمل وفق مبادئ نظرية الكم. وتفيد جريدة الفايننشال تايمز اللندنية أن هذا الحاسب الكمي قد «قام بتنفيذ عملية حسابية معقدة جداً في شركة غوغل حول توليد الدوائر العشوائية، يحتاج السوبر كومبيوتر (سوميت) السابق إلى 10 آلاف سنة لحلها»! وقد أنجز الكومبيوتر الكمي الحل خلال 3 دقائق و20 ثانية فقط!
لست أريد أن أقلقكم دون فائدة، لكن «قطار العلم بات بعيداً جداً عنا» نحن العرب، كما قال صديقي رائد البيطار، وأخشى ما أخشاه أن نبقى منشغلين بعنعناتنا التافهة، وصراعاتنا الحمقاء، حيث لا يبقى لنا أي دور سوى أن نكون عبيد عصر الكم المعلوماتي الجديد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن