قضايا وآراء

أما وقد عادت عجافك يا عراق

| عبد المنعم علي عيسى

لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل ما يجري في العراق منذ مطلع الشهر الجاري وبين ما شهدته الأحداث اليمنية من تصعيد على امتداد الأشهر الأربعة الماضية، والحدث من الجائز قراءته على أنه حالة تبادلية اقتضت استثماراً سعودياً، بدعم أميركي، في الخاصرة الإيرانية الرخوة التي يمثلها العراق في مقابل استثمار إيراني في خاصرة السعودية الرخوة التي يمثلها اليمن.
هذا كله لا يلغي على الإطلاق البعد الذاتي للحدث العراقي، فالكرم تراكم فيه الكثير من الحطب الكافي كما تبين لإيقاد النار، وولوج إرادة الخارج إلى دواخل الكيانات لا يتم إلا عبر الشقوق التي صنعتها السياسات الخاطئة المتراكمة غالباً بفعل تغليب الخاص على العام أو بفعل ضغوط الخارج التي تصبح في أحايين عدة فوق الاحتمال وهي تقتضي الانسياق وراءها توقياً لشرور أكبر.
أدير ملف العراق ما بعد الاحتلال الأميركي عام 2003 بثنائية عرفت بتفاهم واشنطن طهران التي فرضتها تلاقيات في مصالح متعددة، وهي ترسخت في مراحل مفصلية إبان التصدي لبروز ظاهرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، وفي حينها أثمرت تلك التلاقيات إلى توجيه ضربات موجعة مثل مقتل زعيم التنظيم أبي مصعب الزرقاوي عام 2006 ومن ثم بروز ظاهرة «الصحوات» التي استطاعت كبح جماح بل تلاشي مفاعيل التنظيم بشكل واضح نهاية عام 2008 قبيل أن يستمد هذا الأخير جرعة «أكسير الحياة» المنشطة عبر هبوب رياح «الربيع العربي» عام 2011 ليستطيع عبرها نقل نشاطه إلى سورية وإلى أبعد منها أيضاً، ذاك التلاقي اتخذ طابعاً أهم في حزيران 2014 الذي شهد تنسيقاً في التصدي لتمدد داعش في العراق والمؤكد أن هذا الفعل الأخير كان ممهداً لاتفاق فيينا تموز 2015.
كان وصول نوري المالكي إلى السلطة في عام 2006 واستمراره فيها حتى عام 2014 يمثل الثمرة الأكبر في تلك التلاقيات بين واشنطن وطهران، وعلى الرغم مما أثاره حكم الرجل من إشكاليات كبرى، وفي أتونه كانت هناك بالتأكيد الكثير من الأخطاء كان من شأنها أن أدت إلى تغيير في خريطة التراصفات والتوازنات الداخلية، إلا أنه يجب القول إنه استطاع إقامة سلطة مركزية مستقرة إلى حد كبير ولا يهم هنا من رمزها، أقله مرحلياً، أو كيف استطاع رسم معادلاتها، ففي لحظة معينة تكون فيها التوازنات غاية في الهشاشة، كما كانت عليه اللحظة العراقية آنذاك، يصبح التناقض الأساسي المحدد للواقع السياسي ومآلاته منصباً كله في تحقيق عاملي الأمن والاستقرار، ومؤكد أن حكم المالكي في مجمله كان فعلاً يصب بالدرجة الأولى في تعزيز مواقع الدولة والمعارضة على حد سواء، فقيام السلطة هو الشرط الموضوعي لمعارضتها، وغياب الأولى يعني بالتأكيد غياب الأخيرة.
بعد مرور عشرة أيام على بدء الاحتجاجات العراقية يبدو أن الأمور باتت مؤهلة لانفلاتها من عقالها وهذا واضح من التغييرات الكبرى التي شهدتها مواقف العديد من الكتل أو الشخصيات الوازنة على مستوى الخريطة السياسية للبلاد، وهذا كله يشي بمزيد من التعقيد بفعل تشابك الملفات الإقليمية خصوصاً منها الحرب اليمنية والتوتر الأميركي الإيراني، لكن هنا تجدر الإشارة إلى أن النخب السياسية والدينية الوازنة في البلاد تتحمل المسؤولية الأولى في المآلات التي أدت إلى هذا الـ«تشرين» العراقي الأسود وكأني بلائحة الأشهر العراقية تحتاج إلى المزيد مما راكمته في جعبتها، والمسؤولية تتأتى من أن الكل تعاطى في مرحلة ما بعد الاستقرار الهش بما يشبه الاسترخاء، حالهم في ذلك حال البحارة الذين يجهدون إذا ما كان البحر هادئاً على إظهار أنفسهم كبحارة مهرة.
أما وقد عادت سنو العراق العجاف عبر اندلاع اللهيب الذي يهدد أركان البيت، فإن الواجب الوطني يقتضي العودة إلى مكامن التفجير التي تملك القدرة على النشاط كلما لاحت ظروف مناسبة والتبصر في تشخيصها وفي العوامل التي تغذي فيها ذلك الفعل، والمؤكد أن تلك العودة يجب أن تشمل، أول ما تشمل، المرحلة التي امتدت بين 12 أيار 2003 اليوم الذي سجل فيه دخول بول بريمر إلى العراق، وبين 28 حزيران 2004 اليوم الذي سجل فيه خروجه منه، هي 381 يوماً موشاة بالسواد، وكل قرار أو قانون بل كل كلمه قيلت يجب أن تكون تحت مجهر الوطنية العراقية، فالرجل اختط نهجاً لا يشبهه سوى نهج «الكانسر» البريطاني الذي لم يهاجم نسيجاً إلا وفتك بخلاياه، ويكفي للدلالة على ذلك المادة 41 من «دستوره» التي شرعنت للعراقيين الحق بقانون أحوال شخصية بحسب انتماءاتهم الطائفية والإثنية.
في يوم رحيل بريمر عن العراق ألقى عبر كلمة متلفزة أبياتاً من الشعر قالها باللغة العربية وقد قيل في حينها إن مترجمه معين الجابري قد سهر لتلقينه إياها أياماً طوالاً، والقصيدة شهيرة لابن زريق البغدادي وهي تغوص عميقاً في الذات العراقية والعربية عموماً، ومطلعها يقول «أستودع اللـه في بغداد لي قمراً» وقد اختار منها أبياتاً ثلاثة لكن الأبرز منها هو الأخير الذي كان «وكم تشفع بي ألا أفارقه.. وللضرورات حال لا تشفعه».
المتشفعون ببريمر كي لا تفارقهم أصواتهم لا تزال تصم الآذان!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن