ثقافة وفن

الخيال والحقيقة والحياة

| إسماعيل مروة

يتبادل الناس عبر وسائل التواصل حكايات وقصصاً، تصل في أغلب الأحيان مرتبة الخيال، فيرسل أحدهم مقطعاً أو تعليقاً ليقدم قصة ما عن الوفاء، عن الصدق، عن الاستقامة! وأطرف ما في الأمر تلك التعليقات المرفقة التي تظهر لنا أن هؤلاء من كوكب آخر، أو أن الأمر المطروح من اختلاق الخيال، مع أن الأصل في القضايا الإيجاب، فعلينا ألا نستغرب في حمأة الفساد أن الاستقامة هي الأصل، وألا نعد المستقيم صاحب فضل، فالأصل أن يكون الإنسان غير فاسد، وأن يؤدي الحقوق، لكن الكثرة الكاثرة من الفساد والفاسدين حولت الأصل إلى شاذ ومستغرب ومستهجن.. ترى هل الظروف هي التي تغيرت؟ هل القيم هي من تغيّر؟ هل الناس هم من تغيروا؟ الفائدة فائدة وحرام، أما المرابحة فهي أمر مختلف! وهكذا.. الفاسد له صدر المجالس، وهو رجل (قد حاله) أو (دبّر حاله) وهكذا.. والمستقيم مسكين أهبل أضاع نفسه وعنيد (الله لا يقيمه).. وقد وقع في مجتمعاتنا تغيرات كثيرة، وفي سورية أشعلت الحرب تغيراً في المفاهيم والقيم وما إلى ذلك، وصار أي تصرف حتى لو كان في مساعدة عاجز على عبور الطريق مستهجناً!!
وقد استرعت انتباهي قصص في الدراما، وفي وسائل التواصل الاجتماعي تروى على أنها قريبة من الخيال، فهذا الأعمى والعاجز المسلم والمسيحي يعيشان معاً حياتهما حتى يفرقهما الموت.
ويموت أحدهما على فراق الآخر، جاءت القصة، واستدرت دمعاً مع أنها قصة حقيقية مئة بالمئة، وموجودة في كتب تاريخ دمشق القريب، والشخصان معروفان، ومن الواجب علينا أن نثبت القصة الحقيقية حتى لا تصبح خيالاً.. واليوم كم من إنسان آوى صديقاً أو قريباً أو غريباً في بيته فتمسك بالبيت ويأبى أن يغادره؟! وكم من إنسان استودع أمانة فهضمها وأنكرها؟! وكم من إنسان اعتدى، سواء كان مسؤولاً أم عادياً، ولفت انتباهي قصة ساقها أحد البرامج عن تاجر في دمشق استودعه أحد الحجيج أمانة، وعندما عاد هذا الحاج أخطأ في الدكان وطلب أمانته، فما كان من التاجر إلا أن تدبر أمره وأعطاه الأمانة كاملة، ليكتشف الحاج القادم فيما بعد أن أمانته كانت عند تاجر آخر وفي دكان أخرى، فعجب لهذا التصرف، وكان جواب التاجر عن الأمانة، وما يقوم به الدمشقيون من أجلها.. وتم تبادل هذا الحديث بين المتعاملين على وسائل التواصل الاجتماعي، وكل منهم يستغرب هذا الأمر، ويسأل: هل هذا معقول؟!
هذه القصة أيضاً حقيقية وفي القرن التاسع عشر كما قصة الأعمى والعاجز، ولها بطل حقيقي يحسن أن نذكرها بأشخاصها حتى لا تتحول إلى الوعظ، فالتاجر هو والد الشاعر عمر النص، والقصة مذكورة في الوثائق، ورواها حضورها عنه وعن تصرفه، وعندما تذكر القصة بدقة ليس من أجل تكريم التاجر، بل لإعطائها مصداقية، وليعلم الجميع أن التاجر حقيقة، وأن الأمانة حقيقة، وليست قصة غريبة بعيدة المنال يقصد منها الوعظ والإرشاد.
هناك شخصيات حقيقية لم تمارس دور البطولة ليقال عنها إنها بطلة، بل لأن هذا الدور هو الذي ينسجم مع رؤاها وسياق حياتها وتربيتها، وليس لتضرب مثالاً، بل لأن موقعها يحتّم عليها أن تضحي ليبقى الاسم مهماً ونظيفاً، ويمكن أن نتعلم من هذه القصص الواقعية غير الخيالية أهمية المحافظة على الاسم من أن يلوث بكذب أو فساد أو سرقة أو ضياع أمانة، أو خيانة وطن!
نتعلم من القصص أن القيم ليست وجهة نظر، ولا تختلف من زمن إلى آخر، وإنما هي ثوابت لا يمكن تبديلها بين زمن وآخر، وإن وجد كثيرون أن الاستغناء عنها ممكن أو ضرورة في بعض الأحيان.
وعندما نثبت القصص بحقيقتها وأشخاصها وأماكنها وتواريخها لن يتمكن الإنسان من أن يرفض ويتجاهل، ويدعي أنها خيال من وهم الكاتب أو المتحدث، ولن يتمكن من أن يدير لها ظهره وهو يقول: خيال وكلام فارغ..!
وفي أحسن الأحوال يصفها بعضهم بأنها خيال يتعاطف مع دمشق وأهلها لجبر الخواطر في هذه الحرب التي بزعمهم طمست محاسن دمشق وأهلها.. إن الاستقامة أصل وحقيقة، والفساد طارئ وراحل.. وتبقى القيم بهارات حياة النبلاء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن