«الهاجس اللغوي» الإضاءة على إشكالات اللغة العربية … من الهواجس اللغوية التي تؤرقنا تعدد المشكلات التي تواجهها لغتنا العربية
| سارة سلامة
غنيّ عن البيان إن أي لغة إنما تحيا بالاستعمال، وتموت بالإهمال، وإن شؤون لغتنا العربية والتحديات التي تواجهها في الاستعمال تشكل هاجساً لغوياً يهيمن على تفكيرنا. وقد حاول هذا الكتاب أن يسلط الأضواء على إشكالات اللغة العربية والأداء اللغوي على أرض الواقع، ومحاولات تجديد العربية وتيسيرها للارتقاء بهذا الواقع في ميادين النحو والبلاغة وإضافة دلالات جديدة لبعض الكلمات والعبارات وفي مجال تعليم اللغة وتعلمها.
وأبان الكتاب أن النهوض باللغة يتطلب التخطيط اللغوي في ضوء سياسة لغوية واضحة تعالج قضاياها على أن يكون عمادها التنسيق والتكامل بين قطاعات المجتمع كافة على المستويين المحلي والقومي انطلاقاً من أن صون اللغة وحمايتها مسؤولية جماعية، ومن هنا احتل الأمن اللغوي حيزاً في المعالجة.
(الهاجس اللغوي) كتاب صدر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، للباحث الدكتور محمود السيد ويقع في 272 صفحة من القطع الكبير ويعتمد المنهج التطبيقي والبحث العلمي والدلالات والإشارات المعتمدة على المنطق. ويسلط الضوء على إشكالات اللغة العربية والأداء اللغوي ومحاولات تجديد العربية وتيسيرها في ميادين النحو والبلاغة وفي مجال تعليم اللغة وتعلمها.
غياب التنسيق
ويقول السيد في البداية إن: «من الهواجس اللغوية التي تؤرقنا تعدد المشكلات التي تواجهها لغتنا العربية، وانخفاض مستوى الأداء اللغوي في واقعنا العربي إن في العملية التعليمية أو في خارجها، إذ إنه ليس بالصورة المرغوب فيها.
ولا يغبن عن البال أن ثمة محاولات بذلت في القرن الماضي لتجديد اللغة العربية والسعي إلى تيسيرها نحواً وبلاغة، وإلى إغناء معاجمها دلالات ومصطلحات اقتضتها طبيعة العصر، إلا أن ثمة محافظين وقفوا ضدّ هذا التجديد، ولكل فريق حجته وأدلته.
ومما يؤلم له غياب التنسيق بين الجهات العاملة في المجال اللغوي، ومع الأخذ بالحسبان أن نجاح أي عمل إنما يتطلب التعاون والتنسيق والتكامل في الجهود خدمة اللغة، وسعياً إلى الارتقاء بها، وتجاوز مشكلات واقعها.
الإشكال اللغوي
يشير هذا الجزء إلى النظرة المعاصرة إلى اللغة على أنها منظومة، وإلى تبيان المشكلات التي تواجه اللغة العربية في ضوء المفهوم المنظومي الشامل إلى اللغة.
ومن الاتجاهات التربوية المعاصرة النظر إلى اللغة على أنها نظام أو منظومة، وأن النظام يتكون من عناصر أو مكونات، وأن هذه المكونات تتبادل التأثير والتأثر فيما بينها، حيث إن كلاً منها يؤثر في غيره ويتأثر به، وإن ثمة عوامل خارجية تؤثر في هذه المكونات الداخلية.
ولقد استعارت التربية المعاصرة هذا المصطلح «نظام» من علوم الحياة «البيولوجيا» التي تهتم بدراسة النظم أو الأجهزة التي يتكون منها جسم الكائن الحي، ويطلق على كل منها اسم «جهاز» أو «نظام»، فهناك النظام الهضمي، والنظام التنفسي، والنظام العصبي.. إلخ.
وفي دراسة كل نظام يركز الاهتمام على أمور ثلاثة أساسية هي:
-مكونات هذا النظام.
-العلاقات الوطيدة التي تربط بين هذه المكونات.
-العوامل الخارجية التي تؤثر في هذا النظام، وتربطه بغيره من النظم الأخرى في إطار نظام أكثر شمولاً واتساعاً.
التجديد اللغوي
يعمل تحت هذا العنوان أن يعرف بمفهوم التجديد اللغوي، ويقف على وضع اللغة العربية بين المحافظين والمجددين، ويبين مجالات التجديد، في مجال وضع المصطلحات وفي مجال القواعد النحوية والإملائية والبلاغة.
غني عن البيان أن الحياة تتغير وتتبدل بين عصر وآخر، بل بين سنة وسنة في هذه الأيام في عصر متغير ومتبدل، كانت معارفه من قبل تحتاج إلى مئات السنين حتى تتضاعف، على حين تتضاعف في أيامنا هذه في شهور.
واللغة ظاهرة من ظواهر الحياة، وقانون من قوانين المجتمع، وظواهر الحياة تتبدل وتتشكل طوعاً لتصريف الزمن، وقوانين المجتمع تتجدد وتتطور وفقاً لما تقتضي به ضرورات الاجتماع.
وإذا كانت اللغة ترافق المجتمع الذي ينطق بها، والأحياء الذين يتكلمونها، فإن لغتنا العربية لم تعرف الركود في مسيرتها إلا في عصر الانحدار، إذ استطاعت في الجاهلية أن تعبر عن تجارب أصحابها، وعندما جاء الإسلام بمفاهيمه الجديدة استطاعت أن تتمثل هذه المفاهيم، وأن تعبر عنها أيما تعبير.
التنسيق اللغوي
طالما عقدت مؤتمرات وندوات على الصعيد العربي للبحث في التعريب عن أهمية وخطة وإجراءات عملية، وطالما وجه المؤتمرون والمنتدون توصيات إلى الجهات المعنية للعمل على إنفاذها، وطالما وجدنا أنفسنا بعد مضيّ ما يزيد على نصف قرن على عقد المؤتمر الأول للتعريب في الرباط عام 1961، ندور في حلقة مفرغة، إذ إن أغلب التوصيات التي خلص إليها ذلك المؤتمر ما تزال غير منفذة، وما تزال تتكرر في مؤتمراتنا ونحن في العقد الثاني من الألفية الثالثة.
والتعريب الذي نقصده في هذا العرض لا يقتصر فقط على ترجمة النصوص الأجنبية ونقلها إلى العربية وتعليم العلوم الأجنبية بالعربية، ولا يقتصر فقط على إيجاد مقابلات عربية للألفاظ الأجنبية لتعميم العربية واستخدامها في ميادين المعرفة، وإنما يعني بمفهومه الشامل سيرورة اللغة العربية وانتشارها في جميع مناحي الحياة تعليماً وإدارة وإعلاماً وتواصلاً وفي جميع قطاعات التنمية الشاملة والمستدامة أداء سليماً على الألسنة والأقلام.
أما القضايا التنسيقية الملحة في مسيرة التعريب فتتمثل في ضرورة التخطيط اللغوي في ضوء السياسة اللغوية والقرار السياسي الملزم والتنسيق المعياري اللغوي، وفي وضع المصطلحات العلمية العربية، والتنسيق بين بنوك المصطلحات، وفي مجال الصناعة المعجمية، والتنسيق في النظام التعليمي العربي، والإعلام اللغوي العربي، ومعالجة الرموز العلمية والوضع اللغوي على الشابكة، وبين جمعيات حماية اللغة العربية.
يذكر أن الدكتور محمود أحمد السيد له مؤلفات كثيرة في مجال التربية والثقافة واللغة والإعلام نشرت بدول عربية عدة وهو حائز جائزة الدولة التقديرية في مجال البحوث والدراسات والجائزة التقديرية للتربية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ويعمل حالياً رئيساً للجنة العليا لتمكين اللغة العربية ونائباً لرئيس مجمع اللغة العربية بدمشق ورئيس تحرير لمجلة المجمع ومديراً لهيئة الموسوعة العربية.