ثقافة وفن

الضرورة الشعرية ما لها وما عليها … أهم المشكلات التي تعتري الشاهد الشعري وأثرها في بناء القاعدة النحوية

| سوسن صيداوي

للشعر منزلة مهمة لدى علماء العربية، ولكن جرى الخلاف بينهم فيما يُحتج به في الضرورة الشعرية، الأخيرة التي هي من أهم المشكلات التي تعتري الشاهد الشعري ولها أثر مهم في بناء القاعدة النحوية، فهي قضية اختلفوا في معناها، وفي أسبابها، وبموقفهم منها، الأمر الذي ترتّب عليه خلاف في التقعيد النحوي، بين التقعيد الشمولي العام، والتقعيد المخصوص للغة الشعر، هذا الخلاف دفع غير واحد من النحاة إلى الاعتماد على الشاهد النثري والشاهد القرآني في استنباط القاعدة النحوية. ولأن موطن الضرورات الكثيرة التي اختلف فيها علماء النحو، حول ما جاز للشاعر ارتكابه منها وما امتنع، وما عقدوا الأبواب الخاصة في مصنفاتهم لما يجوز للشعراء ارتكابه وما لا يجوز للمتكلم استعماله في كلامه ونثره، كما خصص لها بعضهم كتباً، كالمبرد والقزاز وابن عصفور. ولضرب أمثلة والحديث عن الضرورة الشعرية بما لها وما عليها، أصدر د. عصام درار الكوسى كتاباً صادراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب ضمن مجموعة القضايا اللغوية، ومنه نقدم لكم:
معنى الضرورة وأسبابها

أفرد الباحث في كتابه حيزاً شرح فيه معنى الضرورة الشعرية لغة: مأخوذة من الاضطرار، وهو الحاجة إلى الشيء أو الإلجاء إليه، قال ابن منظور «ورجل ذو ضرورة، أي ذو حاجة، وقد اضُطر إلى الشيء، أي ألجئ إليه، والاضطرار: الاحتياج إلى الشيء». أما عن معنى الضرورة اصطلاحاً: فأخذت من مصطلحات الفقهاء والمفسرين، إذ تعني لديهم تجاوز أصل، أو قاعدة فقهية، إذا دعت ضرورة إلى ذلك بشرط ألا يخالف المُضطر الشريعة الإسلامية، أما في اصطلاح النحويين فهي «ما وقع في الشعر مخالفاً للقياس مما لم يقع له نظير في النثر، سواء أكان عنه مندوحة أم لا، ومنهم من قال إنهم ما ليس للشاعر عنها مندوحة». أما الأسباب التي دفعت إلى الضرورة الشعرية والتي ذكرها د. عصام درار الكوسى، فيتابع بأن خرق القواعد من بعض الشعراء كان مدعاة اختلاف بين علماء اللغة والنحو، قدماء ومحدثين في الأسباب الداعية إليه، فمنهم من يرى أن يدلل على قوة الشاعر وسموّه على الناثر، ومنهم من يرى أنه دليل ضعف في لغة الشاعر.
وعن خصوصية اللغة الشعرية فقد أدرج الباحث مثلاً من أوائل النحاة وهو الخليل الذي روي عنه أنه قال: «والشعراء أمراء الكلام يصرّفونه أنّى شاؤوا، ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف اللفظ وتقعيده، ومدّ المقصور، وقصر الممدود، والجمع بين لغاته والتفريق بين صفاته، واستخراج ما كلّت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه، فيقربون البعيد، ويبعّدون القريب، ويحتج بهم ولا يحتج عليهم». ومن هذا يوصلنا الباحث إلى التالي:
1- إن للشعراء أساليب خاصة يتجهون إليها بإرادتهم «أنَّــى شاؤوا» جرياً وراء المعنى، وليس لمواجهة عجز في مقدرتهم اللغوية أو لضيق تسببه قيود الشعر.
2- إن هذه الأساليب ليست خطأ، بل تفوق منهم على غيرهم، لأنهم يستخرجون «ما كلّت الألسن عن وصفه ونعته».
3- إن هذه الأساليب تبقى محصورة في دائرة اللغة لا تخرج عليها، فلو كانت هذه الأساليب خارجة عن إطار اللغة لاحتج عليهم -أعني الشعراء- لا بهم، وهذا يؤكد أن ثمة صلة بين ما قاله الشاعر في حال الاضطرار وما قاله الناثر في حال السعة.
4- إن هذه الأساليب قد تأتي موافقة للهجة ما في خصوصيتها «والجمع بين لغاته»، وهذا يعني أن ثمة لهجات لم تدخل في دائرة التقعيد العام للّغة.
إن هذه الأمور وغيرها تؤكد أن الضرورة لدى الخليل ومن سار في ركبه دليل قوة طبع لدى الشاعر، سار إليه بإرادته ليبلغ بالتعبير مستوى آخر من مستويات الاستعمال الواقعة في اللغة، قال ابن جنّي: إن الضرورة «ليست بقاطع دليل على ضعف لغة الشاعر، ولا قصوره عن اختيار الوجه الناطق بفصاحته… لكنه جشم ما جشمه على علمه بما يعقب اقتحام مثله، إدلالاً بقوة طبعه، ودلالة على شهامة نفسه». وكمثال إن ما عرضه ابن جنّي من أن الشاعر يلجأ إلى الضرورة في حال السعة محتجاً بقول الشاعر:
من كان لا يزعمُ أنّي شاعرٌ
فيَدنُ مني تَنههُ المزاجرُ
وقول أبي النجم العجلي:
قد أصبحت أم الخيارِ تدّعي
علي ذنباً كلّه لم أصنعِ
ويتابع د. عصام هنا بأن الشاعر يستطيع «أن يقول: فليدن مني ولا يختل الوزن، وكذا في البيت الثاني لو نصب كلمة كله «لما كسر الوزن». وأيضاً بأن هذين الشاهدين وغيرهما من الشواهد التي يمكن أن نعيدها إلى الأصل، ولا يختل الوزن، لا تمثل سوى جزء ضئيل من أبيات الضرورة، ولا يمكن أن نحكم على معنى الضرورة من خلالها، فالجزء الأكبر من أبيات الضرورة لو حاولنا أن نخلصها من الضرورة ونعيدها إلى الأصل لفسد الوزن، من ذلك قول ذي الرمة:
وقفنا فقُلنا إيهِ عن أم سالمِ
وما بالُ تكليمِ الديارِ البلاقع
استشهد به النحاة على حذف التنوين من «إيه» ضرورة، ولو حاول الشاعر أن يأتي به على الأصل لفسد الوزن.

أنواع الضرورة الشعرية
تحت هذا العنوان أفرد د. عصام درار الكوسى أمثلة لم يكتف النحاة بالضرورة في إطارها العام، بل فضّلوا القول فيها، وتوقف عند بعض الأمثلة، ومن الأمثلة في هذه التفاصيل كان حددها أبو بكر بن السراج بسبعة أشياء، حين قال «ضرورة الشاعر أن يضطر الوزن إلى حذف، أو زيادة، أو تقديم، أو تأخير في غير موضعه، وإبدال حرف، أو تغيير إعراب عن وجهه على التأويل، أو تأنيث مذكر على التأويل». وأيضاً من الأمثلة التي طرحها الباحث الأسس التي تقوم عليها الضرورة فقد جعلها ابن عصفور أربعة: الحذف، الزيادة، التقديم والتأخير، البدل. على حين جمع حمزة الأصفهاني الأساسين الأخيرين؛ وهما التقديم والتأخير، والبدل في أساس واحد، وهو التغيير. وهو عينه ما فعله الآلوسي في ضرائره، إذ جعلها ثلاثة أسس لا أربعة: وهي الحذف، الزيادة، والتغيير.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن