ثقافة وفن

«ثقافة السريان في القرون الوسطى» … ضمن السياق التاريخي والروحي

| سوسن صيداوي

حصلت الثقافة السريانية في القرون الوسطى على انتشار عريض وأظهرت تأثيرا كبيراً في تطور الثقافة العالمية، فالهمّة العالية التي تميّز بها السريان استسهلت الصعب، ولم تبال ببعد المسافات وتحمّل المشقات، مزاوجين حضارتهم مع باقي الحضارات العالمية، موّلدين حضارات جديدة أنارت العالم وأسعدت الناس في كل صعد الحياة، لكون هذه الحضارة ليست مرحلة تاريخية بعينها، فهي الحصيلة الأرفع للتاريخ المادي والروحي للأمة منذ أقدم العصور إلى الآن، لذلك بقيت وثيقة الارتباط بمتغيرات لا حصر لها من ظواهر الحياة المنسجمة والمتنافرة، الحيّة والجامدة، التي عرفتها منطقتنا منذ آلاف السنين. وللمزيد من الكثير والمتنوع بما أضافته الحضارة السريانية من غنى للعالم نقدم لكم بعضا من النقاط التي احتواها الكتاب «ثقافة السريان في القرون الوسطى» تأليف: نينا بيغو ليفسكايا، ترجمة: د. خلف الجراد. الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وهو من القطع الكبير بواقع يقل عن خمسمئة صفحة، متضمنا فصلين اثنين فيهما من التنوع الكثير حول التعليم السرياني في القرون الوسطى، متطرقاً للمدارس السريانية وموادها الدراسية، مع الحديث عن علوم السريان سواء مثلاً في اللغة أم في الفلسفة اليونانية عندهم. على حين تحدث الفصل الثاني عن الإمبراطورية السريانية وانتشار المسيحية واضطهادها، إضافة لتنظيم الكنيسة المسيحية في إيران، مع الكثير من القضايا المهمة التي يثيرها غنى هذه الحضارة.

في التأليف
لقد قامت العالمة «نينا بيغو ليفسكايا» بدراسة الثقافة السريانية في القرون الوسطى انطلاقا من موقف منهجي واضح، يستند إلى النظرة التاريخية – المتكاملة، الشمولية، أي فهم التراث «السرياني» ضمن سياقه العام – تاريخياً وجغرافياً وبشرياً وروحياً. وتؤكد الكاتبة في مؤلفها هذا ما سبق أن طرحته من أفكار في أبحاثها ومقالاتها وكتبها المنشورة من قبل: إن السريان في ذروة إنجازاتهم الثقافية- العلمية كانوا يتبادلون التأثير والتأثر مع الشعوب والحضارات الأخرى، وإنهم لم يكونوا في مراحل صعودهم وتقدمهم في معارج الحضارة – منغلقين على الذات، أو مكتفين بالنتاج المحلي لمنطقة وجودهم الرئيسة – بلاد ما بين النهرين وما يحاذيها.
تنقل المؤلفة القارئ بهدوء من موطن للعلم والمعرفة لدى السريان عبر العصور إلى موطن آخر، فعرضت ببحثها كيف أن السريان طُبعوا على محبة العلم لذلك شيّدو المدارس قبل الكنائس في القرى والمدن، وكانت أديرتهم بمنزلة كليات وجامعات تدرس فيها العلوم المدنية، والآداب، واللغات الأخرى والفلسفة، إلى جانب العلوم الدينية. وكيف حملوا مشعل الحضارة إلى شعوب شقيقة مجاورة لهم جغرافياً ولها معهم علاقات اجتماعية وثقافية، وإلى شعوب بعيدة عنهم بكل ما في الكلمة من معنى. وهمة هذه الحضارة استسهلت الصعب، ولم تبال ببعد المسافات وتحمّل المشقات، كذلك حملوا مشعل الإنجيل في صدر المسيحية إلى الهند والصين، ومعه حضارة بلادهم، وتزاوجت حضارتهم مع الحضارات العالمية، فولدت حضارات جديدة أنارت العالم وأسعدت الناس. كما استطاعت المؤلفة بأسلوبها الشائق تبيان ما كان عليه السريان من ذكاء في التجارة وأظهرت مساهمتهم مع شعوب أخرى في هذا المضمار.
في الترجمة

تمكن د. خلف الجراد أن يوصل إلينا هذا البحث بترجمته من الروسية إلى العربية بلغة عربية سليمة وبليغة زادت من روعة الكتاب وسلاسته، وعن قيمة البحث يقول المترجم: «تتلخص قيمة عملنا هذا بأنها تلخص في كشف الصلات الطبيعية – الثقافية والجغرافية والبشرية والاقتصادية والاجتماعية ما بين السريان ومحيطهم الذي إليه ينتمون، بحيث إنه لا يمكن من الناحية الفعلية فصل منجزاتهم الثقافية – العلمية عن إبداعات وعطاءات مَن سبقهم، وفي الوقت ذاته يبرز الكتاب ولا يدع مجالا للشك في أن الثقافة السريانية في القرون الوسطى ليست جزيرة منعزلة عن المحيط الواسع الذي تنهل منه هذه الثقافة، كما هو الحال تماما بالنسبة للتفرعات الثقافية -الروحية، التي ازدهرت وأثمرت، مرتوية من الينابيع ذاتها، ومن الجذور الحضارية عينها. ناهيك عن الصلة القوية، التي أبرزها الكتاب بين العلماء السريان والتطور الهائل للحضارة العربية – الإسلامية في العصر العباسي».
ويتابع د. خلف أنه نظراً لندرة الأبحاث والدراسات المنشورة باللغة العربية حول الثقافة السريانية، وللتشجيع الكبير من الأصدقاء والمهتمين بمسائل التراث وتاريخ العلوم والتربية في منطقتنا الإستراتيجية، بادر لترجمة هذا الكتاب وخاصة أنه أول كتاب علمي، مخصص لمناقشة مسائل الثقافة السريانية في القرون الوسطى، تجري ترجمته من اللغة الروسية إلى اللغة العربية دون اختصار أو تصرّف في النص الأصلي، مضيفاً: «من المؤسف أن المكتبة العربية تشكو نقصاً خطيراً في مجال التعريف بماضي الجماعات والأقوام والشعوب التي قدمت إسهامات كبيرة وعظيمة في بناء حضارتنا وازدهارها ومنها السريان الذين كانت لهم إنجازات وخدمات جليلة، مشهورة في ميادين الطب والفلك والفلسفة والدراسات اللاهوتية، والأهم من ذلك كله نشاطهم المتميز في الترجمة ولاسيما من وإلى اللغات: اليونانية والسريانية، والعربية، وكان لهم الإسهام العظيم فيما يتعلق بالاتصالات وترتيب العلاقات الثقافية والتجارية والدبلوماسية بين شعوب المنطقة ودولها، في ظروف السلم والحرب على حد سواء، وهو أمر سلّطت الكاتبة الضوء عليه في صفحات كثيرة من الكتاب». متابعاً أنه يرى أن هذه الدراسة ستسهم في إرساء الأسس الثقافية – المعرفية للوحدة الوطنية، والانسجام الفكري، والاحترام الفعلي المتبادل بين أبناء هذه المنطقة.

في مخطط الكتاب
يمثل هذا البحث نوعاً من العرض الختامي لمجموعة من الأبحاث والدراسات التي تم نشرها في عدد من المقالات والكتب، فمثلاً عولجت مسألة وضع السريان في إيران من قبل المؤلفة في كتب: «بلاد ما بين النهرين ما بين القرنين الخامس والسادس للميلاد 1940»، «بيزنطة وإيران في القرنين السادس والسابع 1946»، «مدن إيران في المراحل المبكرة من القرون الوسطى 1956»، والترجمة الفرنسية لهذا الكتاب الأخير صدرت في سنة 1963.
ويحتوي الكتاب على فصلين أساسيين انطويا على الكثير من العناوين المتنوعة ولكنها كلّها تصب في معالجة مسائل لم تكن مادة لبحث مستقل وتشكل موضوعاً مهما للغاية، أما الموضوع العام للكتاب والهدف الأساس منه فإنه يتجلى في تحديد مستوى تطور الثقافة السريانية، ومدى اتساع انتشارها، وبالتالي دور السريان في الشرق «في القرون الوسطى»، وعليه تتحدّد طريقة توزيع المواد، ومدى التعمق في صياغة أقسامه وتقديمها للقارئ، فالفصول الأولى من البحث خُصصت لوصف التوزيع الجغرافي السرياني، والحديث على دورهم السياسي في الشرق الأدنى الذي كان مرهونا إلى حد كبير بانتشارهم وتوزعهم بين الدول الكبرى في ذلك الحين -بيزنطة وإيران «إمبراطورية الفرس». أما الفصول التي تلي ذلك فقد خصصت لتأريخ تنصّر «اعتناق النصرانية – المسيحية» السريان، ولمتابعة الوقائع الفعلية للملاحقات العنيفة ضد المسيحيين في إيران، وللعلاقة المتبادلة بين السريان والكهانة الزرادشتية في تلك البلاد. وقد خُصصت الفصول الأخيرة لدراسة العلاقات السريانية – التركية، ولتحليل دور السريان وأنشطتهم في الصين. أما خاتمة الكتاب فقد تضمنّت نتائج عامة عن دور السريان وأهميتهم في الحياة الدولية في الشرق خلال القرون الوسطى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن