ثقافة وفن

اعترافات الفنان أيمن زيدان … هواجس مقلقة في الحياة والفن والعشق!

| عماد نداف

في 16 تشرين الأول الماضي كتب الفنان الكبير أيمن زيدان عبارة موجزة تقول:
خبئ أحزانك أيها التعس… لا أحد يستحق بوحك…!
هذا يعني أنه واجه ردود أفعال غير مرضية على بوحه الصريح ويومياته التي ينشرها على صفحته الخاصة يوميا، أو على الأقل ثمة بعض ردود الفعل التي لم تتعامل باحترام مع ما يكتبه بصدق عن نفسه وعن هواجسه، والتي كثفها بعبارة أخرى كتبها في الخامس من الشهر نفسه، ويقول فيها:
وطني يسكنني.. كل خيبات العمر لن تنتشله من داخلي.. هو خفقات قلبي الواهن.. كم أفخر بك أيها المتعب.

فكيف نتعامل مع ما يفكر به هذا الفنان، المعروف بحيّويته، ودماثته، وإنتاجه المبدع، هل نفهمه على أنه يأس يؤطر ما حوله من تفاصيل، أم نوع من القلق يسيطر عليه بين فترة وأخرى؟ أو على الأقل ربما يكون رد فعل على الواقع المتردي في مجالات كثيرة سببه الحرب؟!
عرفتُ الفنان أيمن زيدان قبل أكثر من أربعين عاماً في لقاءين عابرين في مقهى (الإيتوال) في ساحة النجمة، مع الصديق بسام الحمزاوي طلب مني فيهما رأيي في شعر كان يكتبه قبل أن يشق طريق الفن بقوة فذة نقلته إلى عالم النجوم، ثم شاهدته على خشبة مسرح الثقفي شابا موهوبا مبدعا مع الفنان الراحل أكرم تلاوي.
كنت أتابع ما يكتبه خلال الحرب يوماً بعد يوم، وكانت مواقفه واضحة، ومعلنة، وصريحة، مما يسهل على من يتابعه أن يفهمه ويشكل موقفاً واضحاً منه، ويمكن اعتبار ما كتبه في شهر تشرين الماضي، نموذجاً كافياً للدخول إلى عوالمه ومحاولة تفسيرها، فماذا كتب الفنان أيمن زيدان وفي أي إطار نفهمه؟!
انحصرت كتابات أيمن زيدان، التي يمكن أن أسميها (اعترافات) في أربعة هواجس هي:
1ــ الحياة.
2 ــ الفن.
3 ــ الابن.
4 ــ العشق!
وفي هواجس الحياة، نلاحظ تركيزه على مجموعة معطيات أبرزها ( صوره) حيث تختفي وراء مجموعة الصور المنشورة، ثيمة أساسية وطبيعية تتعلق بالزمن الذي يمر، ففي تلك الصور، نراه متغضن الوجه، متعباً، حساساً، ومع ذلك لا يريد أن يستسلم لوهن العمر الذي هو فيه.
وأيمن زيدان من مواليد الفاتح من أيلول عام 1956، وقد فاجأه بعض أصدقائه وإخوته وأبنائه باحتفال لطيف في عيد ميلاده الثالث والستين، ونشرت على الصفحات الخاصة لهؤلاء بعض اللقطات عن ذلك.
وفي موضوع الحياة نجد أيمن زيدان، وقد شغله الحلم دائماً، والحلم هنا بمعنى الطموح: «أيها الغافي على حلمك إياك أن تصحو.. حلمك أجمل من وجه الدنيا الذي لا أدري كيف أصبح قبيحاً..» ويلاحظ هنا إصراره على الحلم في ظروف حياتية يصف فيها وجه الدنيا التي نحن فيها بالقبح. والغريب أن يقدم لمن يريد معرفة هواجسه تفاصيل مهمة، فهو يؤكد في هذه التفاصيل التي كتبها في أيام أخرى أن الحياة في جوهرها تحمل مصاعب كثيرة إلى الدرجة التي يعيدنا فيها إلى تجربة ناظم حكمت: «في سنوات الشباب الغابرة كنا مسكونين بالأمل.. وكلما خذلتنا الصعاب أو رمت علينا الدنيا معاطف خيبتها نتذكر قول الشاعر التركي ناظم حكمت: «إن أجمل الأيام تلك التي لم نعشها بعد »… لم يخطر ببالنا حينها أن نتمعن في تفاصيل حياته الشائكة.. رجل حكم عليه بالسجن ثمانية وعشرين عاماً قضى منها اثنتا عشرة سنة وفر خارج وطنه وأسقطت الحكومة آنذاك عنه جنسيته وقضى ردحاً طويلاً من عمره منفياً.. اليوم وحين خط الشيب مفارقنا عرفنا الفارق الشاسع بين الأمل ووهم الأمل، اليوم عرفنا «أن أجمل الأيام تلك التي رحلت بلا عودة».
وتظهر هنا، صورة التناقض التي تنعكس على إصراره على الحلم، فهو يشير إلى نوعين من الأمل: الأمل، ووهم الأمل. وكأنه يخبرنا بأن وهم الأمل كان مسيطراً على مسائل مهمة من طموحه وأحلامه من دون أن يفسر ذلك.
بل أنه لا يتردد، فيعلن أن الأحلام وصلت إلى نزعها الأخير: «تجتاحني رغبة عارمة في أن أنزح إلى فضاء زاخر بشغف سنوات الحماسة، يوم كنا شباباً نحلم كالغجر بأن نصنع من ضوء القمر قلادات الفرح المشتهى، ويوم كانت الدنيا تحنو على قلوبنا الصغيرة وتداعب شغفنا وأمانينا، كنا نحبو في أزقة المدينة الملونة ونجر عربة أمانينا على الدروب بفرح لا ضفاف له ولا حدود…»
ويتم بالقول:
«اليوم بات العالم شديد الضيق
ووصلت الأحلام إلى نزعها الأخير…»
إن هذه المساحة من الاعترافات مخيفة رغم أن أيمن لم ينطو ولم يتوقف عن الإبداع، بل تحيلنا مباشرة إلى نوع الأحلام والآمال التي كانت تراوده، فالمسرح والسينما والدراما التلفزيونية فتحت بواباتها له، ليس من باب فرص العمل وإنما من باب النجومية والجدارة والنجاح والشهرة التي يتمناها الكثيرون من أمثاله.
وأساساً، تبدو تجربة أيمن زيدان نموذجاً يحتذى به عن تجارب فناني وكتاب جيله الناجحين، فكثيرون مثله تحطمت آمالهم وأحلامهم، ولم يحققوا جزءا يسيرا مما حققه، فلو أنه استمر بكتابة الشعر، وأصبح شاعراً، لكان سيقدم نموذجاً آخر عن الشاعر الفذ النموذجي الذي رحل مبكراً: رياض الصالح الحسين. لكن ذلك لن يرضيه، وربما كتب مثل رياض رحمه الله:
«لا ماء في البحر
لا حياة في القبلة
لا عدالة بين نابي أفعى
لا شمس ساطعة في قلبي»
ومن الظلم لنفسه ألا يعترف بما أنتجه على صعيد أحلامه الفنية، فقد شق طريقه الفني بقوة وتصميم، فترك أجواء الشعر ودراسته الأولى، ودخل المعهد العالي للفنون المسرحية، ثم تفوق، فأصبح أستاذاً، فإذا به في صدارة جيل فني جديد، وفي زحمة أزمة الجيل الذي هو جزء منه تمكن بجدارة عبر الشركة التي كان يديرها (الشام الدولية) من إحداث منعطف كبير في الدراما التلفزيونية السورية، فصرنا أمام إنتاج متدفق حار رائع يقوده أيمن زيدان بدأ بمسلسل (نهاية رجل شجاع)، ولم ينته بعد رغم كل الجوائز التي حصل عليها، ونموذجه هذا العام في حضوره في مهرجانات (مكناس)، والسليمانية، والإسكندرية، ممثلاً ومخرجاً متفوقاً!
وعلى غير عادة النجوم الذين تشوش الأضواء الرؤية عندهم، هتف أيمن زيدان وهو يقبض بيده على آخر جائزة في الشهر الماضي: «أهدي هذه الجائزة إلى كل المسكونين بالهم الحقيقي والذين يسهمون بشكل حقيقي في إعادة ترميم المشهد الثقافي السوري لصناعة مستقبل معرفي مشرق لوطننا الغالي».
أي إن كل تعبيراته عن اليأس، لم تمنعه من الحديث عن المستقبل المشرق!
كان أيمن زيدان حزينا رغم كل هذا المجد الذي شق طريقه بإصرار، وإذا كان للزمن حصة بهذا الحزن، فإن ثمة حزنا آخر يجتاحه بين فترة وأخرى هو حزنه على (نوار) ابنه الذي رحل بين يديه، وهو الفتى الذي أحبه ورافقه في تقديم برنامج جميل، وكان يريده أن يكون معه إلى آخر الدرب، وقد كتب الكثير عن وجعه وحزنه على نوار.
وعلى سيرة الحزن على (نوار) رحمه الله، يبرز حازم، فيسد الفراغ، وحازم هو الابن الأكبر، ومن يراه ممثلاً يقدر تمثيله وأداءه، ومن يراه مخرجاً في الفيلم السينمائي (العين الساحرة) يتوقع له مستقبلاً مهماً في الإخراج السينمائي، فلماذا يتصيده الآخرون في طموحات ابنه، هذا التصيد زاد أوجاع أيمن زيدان، وجعله يكتب: « لم أكن ارغب في كتابة البوست التالي لولا أنني صادفت بعض المقالات لنماذج من صحفيي القطيع أو بعض آراء سكان المياه الضحلة والمتعلقة بفكرة توريث الفن حتى إن بعضا ممن ذكرتهم وصلوا إلى حدود الافتراض أن ابني حازم يقدم برنامجاً عن السينما فقط لأنه ابني، وللتوضيح لأولئك أقول: حازم خريج المعهد العالي للفنون المسرحية في سورية وخريج أكاديمية السينما في القاهرة للإخراج السينمائي.
باختصار أنا لم أوّرثه المهنة بل درسها ما يقارب عشر سنوات، لذا من المعيب أن ينحدر مستوى التعليقات من هؤلاء الذين لا تشكل آراؤهم غير النزيهة عائقاً في وجه طموح مجموعة من الشباب المتعلمين».
وأيمن زيدان هنا، لا يحتج على مفهوم (التوريث) بمعنى الجينات والمواهب، هو يعرف جيداً أن هذه المسألة معروفة وطبيعية في الحياة، لكنه يحتج على إدارة الدفة باتجاه آخر، يتعلق بتوريث قسري ( تنفيعة)، ولذلك أخبرهم أن حازما لا يحتاج إلى توريث قسري، (على فكرة) يمكن التوقف بحذر عند تجربة التقديم التي عرضتها «قناة لنا» لحازم زيدان، فهي لم تضف لنجاحه، فحازم إضافة إلى كونه ممثلاً نجماً هو مخرج ينبغي ألا يضيع مواهبه في إغراءات من هذا النوع.
أخيراً، بقيت مسألة (العشق) في حياة أيمن زيدان، وهي مرتبطة حكما بمسألة الزمن، فمن قال إن التسامي، وإبداع التحف الدرامية والسينمائية، لا يعوض عن عشق جميل، يقول أيمن زيدان:
«لا أدري لماذا يوصد القلب أبوابه في وجه نتف الفرح العابرة، لا أدري كيف صدقتْ نبوءة عرافة الزمن الموجوع أنه ما عاد في القلب الواهن فسحة لخفقة جديدة..».
ويكتب في تعليق آخر: «بصوتها الفتي همست له (حين اقتربت منك أدركت أن الأرواح لا عمر لها)، ضاقت الدنيا بفرحه الغامر وبدأ جسده ينعتق من ثقل أعوامه التي تجاوزت الستين، فاندفع برقصته المجوسية التي لم تكتمل. فقد هزم وهنُ قلبه روحه الشابة. هوى على كرسيه وهو يلملم أنفاسه وعاد أسيراً لعمره الذي لم ينجح بالهروب من سطوته.. رشف كأسه ولعن خيانات الجسد».
هذه هي المسألة، ويضيف أيمن زيدان: «حين تسرق خيبات العمر بوصلةَ قلبك تعبث بك الأنواء وتتوه عنك جزر الأمان المنشود، ستظل أيها الخافق بحاراً في لجّةِ يمٍ غاضب، لا تدري أين سيرميك موج العمر المعتوه»
لماذا يبني أيمن يأسه على هذا النوع من الخيبات، حديثه هنا عن (الخيبة)، يأخذني إلى حكاية شاعر بريطاني عاش في مطلع القرن التاسع عشر ثلاثين عاماً اسمه شيللي، فهو صاحب المقولة الشهيرة:
«فلتكفه الخيبة عقاباً!»
أيمن زيدان الذي ينعشنا في إبداعه دائماً، والذي لا يمكن أن ننسى منه نصوصه الأدبية، ينبغي ألا يشعر بالخيبة، فالخيبة لا تصيب من قدّم لنا هذه الإبداعات الكثيرة في السينما والمسرح والتلفزيون والأدب.
وعلى سيرة الخيبة، والشاعر شيللي، مات شيللي غرقا في الثلاثين من عمره، وعندما أحرقوا جسده، اكتشفوا أن قلبه لم يحترق. غريبة كيف لم يحترق قلبه. لابد أنه كان يريد للحياة والحب أن يستمرا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن