قضايا وآراء

روسيا والاستثمار النووي

القاهرة – فارس رياض الجيرودي

 

قامت روسيا باستعراض آخر ما توصلت إليه مجمعات التصنيع العسكري فيها من إنجازات في يوم النصر الروسي موجهة رسائل باتجاهات عدة، فعلى حين تقدم دولة مثل الصين أوراق اعتمادها كقوة عظمى في العالم من خلال أنها اليوم الدولة الأضخم من حيث حجم الإنتاج الصناعي، وهو ما وفر لها احتياطات العملات الصعبة الأكبر على مستوى العالم، تعود روسيا لموقعها على الساحة الدولية معتمدةً إلى جانب التكنولوجيا العسكرية المتطورة التي جعلتها أكبر مصدر للسلاح في العالم، على كونها أيضاً المنتج الأكبر للطاقة في العالم، فهي لم تكتف بكونها المنتج الأول للنفط في العالم بواقع 11 مليون برميل يوميا، ولا بكونها المنتج الأول للغاز عالمياً بواقع 1.7 مليار م3 يومياً، لكنها تمكنت خلال السنوات الماضية من استكمال مثلث الطاقة من خلال تحولها إلى الدولة التي تستحوذ على الحصة الأكبر من مشاريع بناء المحطات النووية حول العالم وبنسبة 37% منها، متجاوزة بذلك آثار البروبوغندا التي ضجت بها وسائل الإعلام الغربية أواخر العهد السوفييتي حول سلامة إجراءات الأمان في المفاعلات الروسية مستغلة حادثة تشرنوبيل النووية الشهيرة.
و لم يأت الانجاز الروسي في مجال الاستثمار النووي نتيجة لمصادفة، بل نتاج سياسة طموحة بدأت بإلغاء وزارة الطاقة النووية الروسية عام 2007، وتحويلها إلى شركة تمتلك الحكومة الروسية الحصة الأكبر فيها، حيث نظرت الحكومة الروسية للتكنولوجيا النووية بأنها أمن قومي لا يمكن التفريط فيه أو حتى إحالته للخصخصة، لكنها قررت الاستثمار فيه بالشراكة مع القطاع الخاص، فقدمت للدول النامية حول العالم والراغبة في الحصول على مصدر رخيص للطاقة يوفي باحتياجاتها عروضاً استثمارية، أشهرها عرض نموذج BOO والذي يعني إمكانية (بناء – تملك – تشغيل) محطة طاقة نووية، كانت لهذا النموذج أهمية كبيرة في استقطاب الدول النامية التي لاتملك خبرات في مجال الطاقة النووية أو الدول التي ليست لديها إمكانيات اقتصادية لدعم مشاريع باهظة الثمن، وهكذا تلقفت دول مثل بلاروسيا وهنغاريا وفيتنام وأرمينيا وبنغلاديش والبرازيل وجنوب إفريقية والتشيك وفنلندا وغيرها العرض الروسي، ورغم أن تلك الدول لن تحصل جميعها على إمكانية إنتاج دورة كاملة لإنتاج الوقود النووي وتخصيب اليورانيوم على أراضيها كالتي حصلت عليها إيران مثلاً بعد صراع طويل مع الغرب وبعد إنفاق جهود ضخمة على البحث العلمي، إلا أن القيمة الدعائية للحصول على مفاعل نووي بالنسبة للعديد من تلك الدول أصبحت مغرية بعد الضجيج الذي أحدثته وسائل الإعلام الغربية خلال السنوات الماضية حول المشروع النووي الإيراني، ومن ثم الأنباء عن التوصل أخيراً لاتفاق بشأنه، ما جعل امتلاك المفاعل النووي رمزاً من رموز السيادة الوطنية وتملك الدولة لأدوات العصر وإمكانياته، كما يبدو عليه الأمر في نظر الشعوب والنخب في الدول النامية.
و تقوم روسيا ببناء المفاعلات من نوع Breeder Reactor بمسمى BN-800 وBN-1200 وترى أن المستقبل لمثل هذه المفاعلات حيث إنها لا تخلّف نفايات نووية بالقدر الموجود في النماذج المبنية حالياً حول العالم، وتعتبر روسيا دولة رائدة في هذا المجال، إضافة لمشاريع أخرى، كالمشروع المثير للاهتمام والمتعلق ببناء محطة الطاقة النووية العائمة Floating nuclear power stations والذي سيمكن السفن النووية من الرسو على شواطئ دولة ما لتزويدها بالطاقة الكهربائية وكذلك لتحلية المياه فيها.
حاليا وحسب مصادر وكالة الطاقة الذرية تمتلك روسيا أطول سلسلة من نماذج المفاعلات النووية ذات الحجم الصغير التي تخضع للدراسة أو التطوير أو قيد الإنشاء، كما أن روسيا تعمل على تصنيع أصغر مفاعل نووي للاستخدام التجاري في العالم بمسمى ELENA Reactor والذي يمكن أن يستخدم للمنشآت الحيوية كالمستشفيات التي تتطلب مصدر طاقة آمن لتشغيلها.
ويرى خبراء الطاقة الروس أنه لا الطاقة الشمسية ولا طاقة الرياح يمكن أن تؤدي دوراً حيويا كبديل من النفط والغاز كما يمكن للطاقة النووية أن تؤدي، فالطاقة الشمسية وطاقة الرياح تحتاج إلى مساحات شاسعة لتستوعب الخلايا الشمسية أو التوربينات الهوائية مع إنتاج متواضع بالمقارنة مع الكلفة، كما أن كلفة الصيانة مازالت عالية، وبناء عليه تعول روسيا على الورقة النووية كإحدى أوراق القوة في جعبتها خلال القرن الحالي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن