ثقافة وفن

«فوضى» مسرحية واقعية … رائد مشرف لـ«الوطن»: جمعنا تفاصيل الأوجاع بالحوار أو بالحركة وكسرنا البوح داخل نفوس النساء

| سوسن صيداوي ت: طارق السعدوني

في بوح المعاناة من منّا لم يفقد عزيزاً، من منّا لم يفقد حبيباً، من منّا لم يفقد أباً أو أماً، مَن منا لم يفقد ويفقد ويفقد، مَن مِن بيننا من لم يتألم؟ أو من بيننا لم يتوجع؟ مَن روحه لم تشعر بالأنين بين ظلمات الليل لتناجي صبراً وسلوى من الله.

مّنْ منا لم يسكن في رأسه طوال أيام وليال ليسأل… لماذا؟ ولماذا حصل معي هذا المُصاب سواء أكان في أمور قدرية لا يدّ لنا في مشيئتها، أم في أمور هي من فعل أيدٍ بشرية، ففي كلتا الحالتين الأمور تخنقنا وتمنعنا من البوح، رغم كلّ صراع المعاناة الساكن في داخلنا، فتطول بنا الليالي كي نصارع أوجاعاً وآلاماً، يخبئها المجتمع انطلاقاً من (إن ابتليتم بالمعاصي فاستتروا). ولكنّ هذا الدفين في الأعماق مهما كابرنا، ومهما احتلنا على أنفسنا أو على الآخر بالقوة الزائفة، فسيأتي يوم وسنسلم لفوضى المشاعر وعبثيتها المجنونة، سنقف وتخرّ قوانا أمام البوح في مواجهة عادات وتقاليد، تحرشات، ضعف، آلام…. كلّها أوجاع جعلها مجتمعنا الشرقي حتميّة ورضخنا لها لكوننا نحن الجانب الضعيف، نحن من يرفع صوته وهتافه بأننا نصف المجتمع. نحن من تسعى القوانين أن تساوينا بالرجل، ولكن يا للمهزلة، فنحن الضلع القاصر، المرأة أو الأنثى. هناك الكثير من الأوجاع التي تعاني منها ست من السيدات شكلّ شخصياتهنّ الفنان والكاتب للنص عبد المنعم عمايري ليخرجه هذه المرة رائد مشرف في إثارة زوبعة لـ(الفوضى) على مسرح الحمراء في دمشق، في عرض مكرر للكاتب نفسه ولكن من إخراجه في وقت سابق في عام2005مع ممثلات أخريات، على حين اليوم اعتلين المسرح: نجاة محمد، غزل حنون، هبة ديب، ميس ضوا، مريم زمام، وفاء الحسين. بعضهن في أول صعود ليبُحنّ بأوجاع تمسّ الكثيرين منا.. للمزيد نترككم مع التفاصيل.

«عين الوطن»
إلى متى سنعي بأن الدنيا دوارة والألم سيعود ليؤذي من أذانا من البشر، حاشاك يا إلهي بمشيئتك ولكن وجع الفقد ووجع الألم ينهك الروح وحقاً تكون مجروحة وسقيمة وعليلة بل تنزف، وربما ما يوجعها أكثر هو الكتمان. في العرض المسرحي (فوضى) تشعر بالعتمة وبالبرد، تبكي، وستضحك من أنين الألم. تتنوع كل المشاعر مع سينوغرافيا مشغولة بدقة للملابس والموسيقا والإضاءة والديكور، لتعري المسرح من كينونته ليصبح واقعاً شديد الالتصاق بنا، فالحالات عامة ليست مربوطة بتاريخ أو زمن، بل هي من مجتمعنا عبر ست ممثلات، جسّدن حيوات أنثوية لشرائح مختلفة، عانين كل العنف والقسوة. فبين التحرش الجنسي والدفاع عن المرأة نقف أمام أوجاع فقد السند والحبيب قبل ليلة واحدة من يوم الزفاف، أو بين صراعات طفلة صغيرة يتحرش بها وهي بعمر الخامسة زوج والدتها، وهناك من بينهنّ من فقدت والدها واتشحت بقوة زائفة لتواري خوفها من المجتمع ومن ضعفها ومن انفصام شخصيتها، أصبح كل من تراه من الرجال هو شبه لأبيها، وأيضاً في العرض شخصية فقدت والدتها بأحد التفجيرات، وهذه الشخصية تم إدخالها على النص بدلا من شخصية أخرى، عدا الممثلة السادسة التي تخشى الحسد وتراه كجرذ كبير سيقضم سعادتها وقد أعدّ لها السحر. كلّهن في بوتقة واحدة تحت هشيم نار مجتمعنا في عاداته وتقاليده. جعلونا من إخراج إلى نص إلى روعة في التمثيل -مع كل الكادر-أن نصدق جنونهنّ وأوجاعهن. وأخيراً لابد من الإشارة إلى أن عرض(فوضى)يستحق بأن يكون من أهم العروض التي قُدمت لهذا العام. ويستحق جائزته كأفضل عمل متكامل في مهرجان المسرح الجامعي في حلب.

في الإخراج
لقد قدّم العرض في 2005من تأليف وإخراج الممثل عبد المنعم عمايري مع وجود ممثلات أخريات ومن بينهن سلافة معمار، وللمزيد حدثنا المخرج رائد مشرف «كما تعلمون النص يعرض للمرة الثانية، فجودته وروعته حرضتني للعمل عليه، كي نعيد تقديمه مع فتيات جديدات من الاتحاد الوطني لطلبة سورية وبالاشتراك مع المسرح القومي. ومادفعني لاختياره بالذات لأنه يجسد وجع المرأة، عمق الوجع والمشاكل لن تتغير، والوجع موجود ولهذا علينا الإلحاح بتسليط الضوء عليه كي نتجاوزه ونحل مشكلاتنا العالقة، وخصوصاً أن مشاعر البشرية واحدة ولا تختلف مهما تغير الزمن، فالوجع سيبقى طالما أن هناك اضطهاداً وسوء فهم وعدم احتواء، وهذه أمور لا يلم بها الذكر الشرقي بالعموم. أتمنى أن نكون قد وفقنا في الإضاءة على هذه الأوجاع».
وفي سؤالنا عن تطرق النص للشهادة خلال الأزمة السورية، أجاب المخرج: «النص يروي قصة خمس شخصيات وراقصة، ولكنني ذهبت باتجاه إضافة شخصية سادسة وهي القصة الحقيقية للفتاة الخرساء التي فقدت والدتها أثناء أحد التفجيرات في المناطق السورية، فهذا الوجع تطرقنا له لأنه أصاب قلوب كل السوريين، وأيضاً هو وجع كما هو الحال على فراق أب أو حبيب أو أي كان».
وكما أشرنا أعلاه إلى أن الممثلات المشاركات بالعرض بعضهّن يصعد لأول مرة، وهنا أكد المخرج بأنه لا يريد أن يقارن مع العرض السابق «أنا لا أرغب في المقارنة مع احترامي له، وخصوصاً أن لكلا العرضين خصوصيته، ولكن هل وفقنا مع الجمهور، فمن الشابات هذه أول تجربة على الخشبة، الأمر الذي جعلنا نلتزم خلال ثمانية وعشرين يوماً بشكل متواصل لنكون ملمين بكل التفاصيل الدقيقة بالأوجاع سواء أكانت بالحوار أم بحركة الجسد وكسرنا هذا البوح الموجود داخل النفوس المقهورة من النساء».

مريم زمام
التعب الشديد بعد العرض وكل الحضور المهنئ لم يمنع دموع وتهدّج صوت الفنانة من الظهور، وكيف لا وهي جسّدت وجعها وألمها الشخصي بكتابة قصتها الحقيقية والوقوف على خشبة المسرح وأدائها، وقالت لنا مريم زمام بضع كلمات: «الدور هو قصة حقيقية عن الأزمة، وما أديته على المسرح هو ما كتبته في النص، فوالدتي استشهدت وبحت بوجعي للجمهور عن آلامي بخسارتي لها، محاولة بوجعي أن أصور أوجاع كل السوريين، لهذا أطلب الرحمة لوالدتي ولكل الشهداء في سوريتنا، وبصراحة يصعب علّي التعبير عما في داخلي وحتى بالبروفات لم أتجاوز وجعي بل كان البكاء هو سيد الموقف، وبالطبع أشكر كادر المسرحية الذي شد من عزيمتي وسندني، الأمر الذي دفعني كي أتماسك أكثر وأخرج من وجعي».

هبة ديب
أشارت الفنانة هبة ديب إلى أن الحالات التي تم عرضها في المسرحية هي قريبة من الواقع وليست غريبة عنّا مضيفة: «الشخصيات هي إسقاط للواقع وهي موجودة، وما قصده المؤلف الفنان عبد المنعم عمايري، هو إظهار البوح الداخلي للأنثى والتعبير عما يدور بداخلها من صراعات، وكان علينا بداية كممثلات أن نشعر بوجع الشخصية ونعيشه كي نستطيع أن ننقله للجمهور، والصراعات التي بداخلها ليست استعطافية بل هي أوجاع مرعبة، وليدرك الجمهور أن المرأة الشرقية مضطهدة وهي بحاجة إلى الكثير من الاحتضان والحنان، والشخصيات الست ما هي إلا حالات للكثير من النساء المنتشرات بكل الأماكن المحلية والعربية ونحن الأقرب لهنّ ولكننا لا نعرف كم الوجع الذي يعيشونه وربما نحن نعيش وجع البعض الآخر».
وأضافت ديب: إن ظهورها على المسرح فرصة مهمة بالنسبة لها وتشكر المخرج على منحها هذه الفرصة وخصوصاً أنها «في عام2014 جاءت لحضور عرض وكانت انتقلت للعيش من اللاذقية إلى دمشق، فكتبت على المسرح وقتها: يوماً ما في مسرح الحمراء سأصرخ ها هنا أنا، وهذا حلمي. واليوم تحقق وأشكر اللـه على هذا».
وعن صعوبة الشخصيات لكونها مركبة أجابت: «حاولت أن أعيش الشخصية في أوقاتها كلها الطبيعية منها والصعبة أيضا، فعشت كل تلك التفاصيل كي أتمكن من إيصال الدور للجمهور».

نجاة محمد
عن دورها وصعوبة شخصيتها المركبة التي أدتها وكيف جعلتنا نصدق فوضى الجنون الذي تعيشه فتقول نجاة محمد بمرحها الطاغي ومزاحها الجميل: «لقد تعبنا كثيراً أثناء التدريبات والبروفات، فالشخصية جداً مركبة وصعبة جدا، ونحن الشخصيات الست لدينا أزمات نفسية. أما عني فأنا أكون قد خسرت خطيبي قبل يوم على زفافنا، فهذا الأمر أثار فوضى عامرة في داخلي بين ما أرويه وما أعيشه وما أفكر به وأقوله لنفسي وللناس، سواء أكان داخلياً أم خارجياً، وكان علي أن أقدم دوري ضمن إيقاع سيشد من يستلم من بعدي الحوار، فهذا الأمر وضعني في مسؤولية كبيرة، وأتمنى أن أكون قد وفقت».
وعن سؤالنا عن حركتها مع الأداء وكيف وازنت بسرعتها فهذا الأمر يتعب الممثل ويثير الإرباك لديه، وعقبت: «بالفعل هذا الأمر صعب ولكن مع التمرينات والبروفات فعلي أن أوازن بين التكنيك والإحساس والكلام فهو يتطلب تمريناً كبيراً، فلبست الشخصية كي أؤديها كما أرغب».
وعن الواقع وما عكسته المسرحية من معاناة المرأة العربية «هذا الواقع باق ولا أظن أنه سيتغير بليلة وضحاها، فهو بحاجة إلى تغيير بطريقة التفكير حتى ولو كانت المرأة تمثل نصف المجتمع، فهم يريدون أن تكون الأنثى مظلومة وأقصد هنا الرجل الشرقي والمجتمع الذي يكبّلها من حيث التسلّط عليها، ولكن هذا الموضوع يحتاج إلى التمرد وأنا أول المتمردات على خطأ القواعد والتقاليد المجتمعية البالية، وعلينا أن نتمسك بالعيش ببساطة».

ميس ضوا
أدت ميس ضوا دور شخصية تعرضت في طفولتها للتحرش الجنسي وعما عانته الشخصية من انكسارات وتناقضات وصرخ بالوجع فقالت: «الفتاة تتعرض للتحرش بعمر خمس سنوات ومن رجل هو زوج والدتها ومن الحالة والفزع تدخل الحمام وتستحم مرة بالماء الساخن وأخرى بالبارد، لتفقد شعرها من الصدمة، فتضع الباروكة وتسعى لتعيش الحياة العصرية لنكتشف بأن الصدمة ما زالت بداخلها وبأنها لم تعش ولم تعان ما حصل لها، هذا الموضوع أتمنى أن نحكي عنه ونسلط الضوء عليه وعلى الفاعل أن يُحاسب بطريقة جداً مؤذية كما أذى الطفل، لكونه الصدمة إن لم يتم احتواء الطفل فيمكن أن يؤدي إلى الجنون».
وعن المقارنة لكون دورها هو دور الفنانة سلافة معمار تقول: «توقفت عند هذا الإحساس وخصوصاً أن من عمل هذا الدور هو سلافة معمار، ما حمّلني مسؤولية كبيرة، الأمر أربكني وحاولت أن أقدمه كما أشعر به أنا وبالطبع نحن لم نر العمل أبداً كي لا نأخذ منهم، وهذه أول تجربة مسرحية لي وكنت سعيدة لكون النص يلامس النساء والكثير من الأوجاع».
وعن تركيب الشخصية وصعوبتها ختمت: «الشخصية جداً صعبة ومعقدة على حين أتكلم عن الطفولة، أذهب وأتكلم كيف أصبحت صبية وأحتاج للجمال كي أعيش لحظاتي وحياتي. فعلاً الشخصية مركبة وتحتاج الكثير من الجهد المبذول وفيها من الحركة بالأداء ما دفعني لأن أعيشها لأوصل أوجاعها وتعاطفت كثيراً معها».

غزل حنون
عن الفقد ووجعه تحدثت غزل حنون: «الفقدان أمر صعب جداً فقد يشعر المرء بشيء ناقص، وتفقد معه الأمان وأنا بشخصيتي فقدت والدي ومعه فقدت الشعور بالأمان وأصبحت أشبه أي أحد به وأبحث عن السند والأمان وشخصيتي مركبة ومصابة بالفصام لتشبّه أي أحد بوالدها، وخوفها من فقدان والدها عكس عليها بأن تظهر للآخرين بأنها لا تخاف، كي لا يستغلها أي أحد أو يكون أقوى منها، هي حالة ملامسة جداً للواقع».
لتكشف لنا بأن هذه ليست تجربتها الأولى وأصبح لديها دافع بأن يتكرر العرض وخصوصاً أننا لم نشاهد المسرحية بل أحببنا أن نقدم ما نشعر به، وكي لا نكرر ما قدمه الممثلون في أول مرة، بمعنى أن نقدمها على طريقتنا وكما نريد ونشعر، كما أخذت التدريبات وقتاً منا وخصوصاً من حيث العمل المشترك بيننا نحن الممثلات الست، فهناك إيقاع علينا أن نلتزم به لتحقيق التوازن المطلوب، هذا الأمر كان متعباً لنا ومتعباً أيضاً للمخرج رائد مشرف الذي استوعبنا بمزاجيتنا نحن الست ودرس معنا كل الحركات والإيقاعات المطلوبة كي نظهر كما ظهرنا خلال العرض.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن