ثقافة وفن

صورة الآخر في الرواية الغربية … الأدب المقارن يزيل سوء التفاهم بين الأنا والذات

| جُمان بركات

إننا نعيش زمناً تؤرقه الحروب والكراهية ومازالت تسوده الأوهام عن الآخر المختلف دينياً مذهبياً وعرقياً، مما يشيع رفضه في حياتنا، وإن خير فن يمد جسور التفاهم بين البشر ويوسع آفاقهم هو الرواية لكونها أكثر الأجناس الأدبية قدرة على تجسيد تناقضات النفس البشرية، وما تخبئه في أعماقها من أوهام عن الذات والآخر، خاصة أنها تمتلك فضاء سردياً لا تقيّده حدود زمكانية.
تسلط دراسة صورة الآخر في الرواية الغربية للدكتورة ماجدة حمود الضوء على المختلف في المعتقد أو الفكر أو العرق وهي أحد الفروع المهمة في الأدب المقارن وتبرز أهميتها في كونها تزيل سوء التفاهم بين (الأنا) و(الآخر) الذي يعد نتيجة ضيق الأفق، وسمة تعتري بعض أدعياء الثقافة.

ولعل الرواية الغربية كانت سبّاقة في كشف تلك الأوهام بفضل بناء عالمها على أسس تعددية، إذ تعلّم الروائي بفضل الديمقراطية التي يعيشها الإصغاء إلى المختلف ذي الرؤية المتفردة ويساعده على ذلك ثقافة استثنائية تدعمها حرية الفكر والإبداع.
وقد لوحظ أن الروائي عموماً الذي وصل إلى العالمية يتميز بالانفتاح على الجمال والإنسان معاً، وبذلك يتيح للمتلقي فرصة العيش في عوالم غنية ترتقي بروحه وفكره إذ تمتلك القدرة على مناقشة قناعات وأوهام تختبئ في اللاشعور لتشوه الذات والآخر معاً.
الصورة الأدبية

إن المكون الأساسي للصورة الأدبية هو اللغة، بما تحمله من دلالات شعورية وتخيلية وفكرية، من هنا لا يمكن أن نفصل ما هو فردي فيها، عما يشكل خيالاً جماعياً، يهيمن عليه التاريخ بكل أزماته الوقائعية والسياسية والثقافية والاجتماعية، لأن كل ذلك يشكل رؤى المبدع التي يرسلها إلى المتلقي عبر لغة مشهدية (نلمس فيها فعلاً سردياً وحواراً بين رؤيتين مختلفتين، وفضاء زمكانياً متنوعاً) وبذلك يتم تجسيد الشخصية عبر لغة مجازية، تستعين بالصور والرموز والأحلام التي هي ابنة سياقات داخلية وخارجية تترك بصمتها على الروح والإبداع.
تُعنى -على هذا الأساس- دراسة الصورة بالفضاء السردي الذي يؤثر في تكوينها ويمنحها خصوصية لا يقدّمها الوصف الخارجي فقط، بل لا بد من عناصر لغوية تشكل بنية ذلك الفضاء (الشخصيات، الراوي، الموروث: الشعبي، الديني) تتدخل في رسم البنية الداخلية للصورة والرؤية الفكرية، أي كل ما يمنحها فرادة.
إن المتأمل يلاحظ أن الصورة تختلف من روائي لآخر، رغم وجود مشتركات بينه وبين غيره من المبدعين، فهي تتأثر بانتمائه الفكري والطبقي وبتجاربه الشخصية وظرفه التاريخي، مما يمنح رؤيته خصوصيتها، إذ إن كل صورة يشكلها الذهن، لابد أن ترسم عبر ذكريات وأفكار وبيئة، تشكل مرجعية ثقافية تغذي خيالات وأوهام عن الآخر تعشش في الأعماق.
قد يتساءل المتلقي: هل لغة الصورة متخيلة أم واقعية؟ من أين تستمد الصورة جمالها وأصالتها؟ هل يمكن فصل «الأنا» عن الآخر أثناء الكتابة الإبداعية؟
لا يمكن أن تدرس الصورة بمعزل عن معطيات (أنتربولوجية/ علم الإناسة) تصف جسد الإنسان ومنظومة قيمه ومظاهر ثقافته بالمعنى الإناسي (الدين والمعتقد، المطبخ اللباس الموسيقا وغير ذلك) أي ما يشكل وجدانه مثلما يشكل هيئته الخارجية، لذلك يساعد هذا العلم على تأمل الآخر، وما رسمته مخيلة المبدع من ملامح خاصة له، تؤثر في المتلقي تأثيراً إيجابياً أو سلبياً.

المبدع
ولعل ما ينسج تفاعلاً إيجابياً بين الذات المبدعة والآخر وجود نظرة متسامحة لدى الروائي، هي سمة المثقف الحقيقي، لكونها تهتم بالمشترك الإنساني على نقيض النظرة الاستعلائية التي ترفض المختلف.
إن التحدي الذي يواجه أي مبدع هو: كيف يحول معطيات الحياة اليومية بكل همومها وتشابكات علاقاتها إلى لغة رمزية، تلوذ بخيال لا يمكن أن ينفصل عن سياقات اجتماعية أو ثقافية أو تاريخية تستطيع أن تقدم رؤية تمس الذات والآخر معاً.
إن المبدع يعبر ويحلم من خلال تلك اللغة التصويرية التي ترتفع برؤيته إلى مرتبة الجمال الفني دون أن ينفصل عن تلك السياقات، لهذا يلاحظ المتلقي تقديم صورة الآخر عبر ثنائية ضدية، تندمج فيها الطبيعة بالثقافة مثل متوحش مقابل متحضر، بربري مقابل مثقف، إنسان مقابل حيوان، رجل مقابل امرأة، وكائن متفوق مقابل ضعيف، وبذلك تتيح دراسة هذه اللغة الوصفية عبر تأمل مفرداتها وتشبيهاتها وإكراهاتها، مما يؤدي إلى تطوير النظرة إلى الآخر خاصة أنها تتيح تأمل موروث فكري غالباً ما يرفض الآخر ولا يحترم الرأي المخالف.
إن تقديم الروائي فضاء الآخر وهو بعيد عنه أو إثر زيارة قصيرة لن يستطيع الإمساك بروح ذلك الفضاء، إذ لا بد من معرفته معرفة وثيقة كي لا تشوّه الصورة التي يرسمها عن مجتمع آخر، فيبدو هذا التشويه أحياناً نتيجة مشكلات يعانيها هو نفسه أو خياله الجماعي الذي قد تحكمه العداوة أكثر من الصداقة الذي يؤثر على وجدانه وتاريخه، وبذلك تنطق اللغة بما تخبئه أعماق المبدع حتى لتبدو الصورة التي يرسمها للآخر مرآة تنعكس فيها أوهامه الذاتية ومخاوفه ورغباته دون أن يعني ذلك الانغلاق في انتماءات قاتلة، إذ إن الأدب العظيم ينفتح على الآخر مثلما ينفتح على «الأنا» لأن أي تشويه يحدث لصورة غيرنا يعني تشويهاً لذواتنا.

«الذات والآخر»
وعلى هذا الأساس فإن كتاب «صورة الآخر في الرواية الغربية» الصادر عن دار التكوين يفيد بدراسة الصورة في الأدب المقارن المرسل «المبدع» والمتلقي معاً فهي توسع آفاق الكتابة، مما يغني الشخصية والخيال فتبنى جسور تفاهم بين الذات والآخر، مما يغني الشخصية الفردية ويجددها إذ تتعرف على نقاط ضعفها وأوهام كوّنتها عمن يختلف عنها، مثلما يتيح الفرصة لفهم الظروف التاريخية (الحروب وماتخلفه من عداوة..) والميراث الاجتماعي (الاستعلاء الطبقي) والنفسي (عقد نقص، رهاب، هلوسة) وبذلك تفيد على المستوى الاجتماعي في تصريف الانفعالات المكبوتة تجاه الآخر أو في التعويض عن أوهام، تتربع الأعماق، خاصة بعد تأملها وإدراكها مما يؤدي إلى اكتشاف سوء الفهم وملامح الصورة المغلوطة، التي كونتها المخيلة عن المختلف (في الدين أو العرق أو الجنس) سواء أكان شعباً بأكمله أم فرداً، وبذلك تؤدي دراسة الصورة إلى علاقة معافاة تنأى عن الأوهام التي قد تشوّه الآخر تشويهاً سلبياً، ترى «الأنا» نفسها متفوقة عليه، نتيجة تعظيم ذاتها فتصل حد النرجسية وتقزيم الآخر، مما يفصح عما تعانيه الأنا من رهاب تجاهه، تغطيه بنفي مطلق لحسناته كنظرة بعض المتزمتين العرب الذين يلغون أي إبداع غربي بل يجعلون له أصولاً في ثقافتهم، كما قد ترسم للآخر صورة تشوهه بشكل إيجابي إذ تنفي عن الذات أي حسنة، وذلك نتيجة عقد نقص لازمتها بسبب تخلفها وضعفها، فتصاب بما يشبه الهلوسة التي تقزم الذات وتنبهر بمن تفوق عليها، وهذا ما نجده لدى بعض المثقفين العرب في نظرتهم إلى الغرب المتطور.
إذاً لا بد لمن يريد دراسة الصورة الأدبية أن ينأى بنفسه عن هذين الموقفين اللذين يشوهان الآخر ويدلان على مدى تشوه الذات، إذ على الدارس المقارن أن يتفحص موقفه الفكري ومنظومة القيم التي يؤمن بها ويستجلي ما يختبئ في أعماقه من أوهام وأفكار مسبقة تربى عليها في الماضي تسيء للآخر، مثلما تسيء لـ«أنا» وبذلك يمتلك القدرة على النقد الذاتي وتأمل ممارساته الثقافية عندئذ يمتلك نظرة موضوعية متسامحة تفهم الذات في حاضرها، وتتعلم من دروس ماضيها لتؤسس علاقات إنسانية جديدة تحتفي بالاختلاف الذي يغني العقل والروح عندئذ يزهر إبداع متميز.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن