قضايا وآراء

تراجع منهجي يؤسس لتصدعات

| عبد المنعم علي عيسى

دون أدنى شك مثل التفوق الاقتصادي التكنولوجي الإسرائيلي، الذي استولد طبيعياً تفوقاً فكرياً بكل أجنحته، وثقلاً راجحاً في الصراع العربي الإسرائيلي، فكان ضاغطاً على الضفة الأولى وعامل ترجيح لأصحاب الضفة الثانية، ولم يكن من الصعب تلمس تداعيات ذلك التفوق الذي تمظهر في العديد من المظاهر والمحطات التي رمت بثقلها في ذلك الصراع.
سعى الموساد الإسرائيلي منذ تأسيسه في الشهر الأخير من العام 1949 إلى أن يكون ذراعاً لتحقيق مهام كانت توصف بالنوعية في تدعيم الكيان، وقد سخرت لأجل ذلك إمكانات هائلة كانت مسنودة بدعم أجهزة الاستخبارات الغربية التي كانت ترى أن النجاحات التي يحققها ذلك الجهاز هي في الآن ذاته تمثل نجاحاً لها مادام النسيج واحداً، بل إن وعد بلفور أصلاً لم يكن وعداً بقيام الكيان الإسرائيلي، لأن الوعد كان قائماً من قبل، بقدر ما كان وعداً بتوريث الكيان قاعدة تكنولوجية وعلمية لهذا الأخير تفوق تلك التي يمتلكها المحيط كوسيلة أولى ضامنة لاستمراره.
عرضت على الشبكة العنكبوتية اجتراحية جديدة لفكر الموساد مثلها مسلسل «الجاسوس» بحلقاته الست التي قيل إنها توثق لحياة إيلي كوهين جاسوس إسرائيل الشهير الذي أعدم في دمشق أيار من العام 1965، وليس مهما هنا مناقشة الأخطاء التاريخية التي طغت على تسلسل الأحداث مادام الهدف كله يقع في سياقات «الأسطرة» أو بمعنى آخر إعادة تفعيل الأسطورة المشغول عليها سابقاً بشكل كبير، وعلى الرغم من أن حياة ذلك الجاسوس كانت قد شغلت الأوساط الإسرائيلية وكذا الغربية بدرجة كبيرة على امتداد نصف قرن أو يزيد، إلا أن المحاولة الجديدة تأتي في سياق تسويقها بشكل جديد يتماشى مع المتغيرات الحاصلة على العقل الجمعي العربي عبر خطاب يريد تحطيم تلك «المكتسبات» التي استطاع هذا الأخير تحقيقها بفعل عوامل عدة أبرزها هو الرمي بنفسه، من دون إجادة كافية لفن العوم، في أتون كل هذه الثورة الرهيبة للاتصالات وما أنتجتها من وسائل للمعرفة وجمع المعلومة.
لا بد من القول: إن كوهين الذي لم تصمد «عبقريته» في دمشق لأكثر من 3 سنوات، فهو دخلها مطلع العام 1962 وجرى القبض عليه في كانون الثاني 1965 زار في خلالها إسرائيل ثلاث مرات، ثم إنه بالتأكيد قضى وقتاً يمتد لأشهر في تأثيث منزله ومن ثم بناء شبكته المزعومة التي اقتصرت على اثنين هما جورج سالم سيف وهو موظف في وزارة الإعلام السورية ومعذي زهر الدين وهو ملازم أول وابن أخت قائد الجيش السوري المتقاعد آنذاك عبد الكريم زهر الدين، كوهين هذا كان قد دخل إلى سورية في مرحلة سياسية حرجة كانت تطغى عليها سمة تذبذب كبير في السلطة وفي أتونها يكون للمال فعل السحر الرهيب في تجيير حالة الاستقطاب القائمة، وهو ما فعله كوهين الذي كان يعمد إلى إقامة السهرات التي كثيراً ما تشهد ثرثرات سياسية غالباً لا تحوي ما يفيد في هكذا حالات.
تحوي سيرة كوهين عشرات الأخطاء التي لا يمكن لهواة أن يرتكبوها وهي أكثر من أن تحصى ولربما يمكن ذكر واحدة بسيطة منها، لكنها معبرة، ففي إحدى المرات سأل موريس، شقيق كوهين المقيم في إسرائيل، أخاه عن حذاء كان قد أرسله هدية لابنته، أي لابنة موريس، فأجاب أنه اشتراه من باريس على حين أن العلامة التجارية المثبتة على الحذاء كانت تشير عبر كتابتها بالعربية إلى المصدر الحقيقي لذلك الحذاء، أما في الحياة المهنية فقد زار كوهين منطقة «الحمة» مرتين وهي بالتأكيد تمثل أحد محاور الجبهة السورية مع إسرائيل إلا أنها كانت منطقة سياحية مفتوحة وليس من العسير على أحد زيارتها، ولا صحة على الإطلاق للتقارير التي أشارت إلى انضمام كوهين لحزب البعث أو ترشحه لمناصب رفيعة أو دنيا، في وزارات الدولة السورية، والخطير في الموضوع أن العديد من الكتاب العرب كان قد روج لها، بل حتى قضية اعتقاله كان قد اعتورها الكثير من اللغط بفعل حالة الاستقطاب المصرية السورية القائمة آنذاك والكثير منها روجته إذاعة صوت العرب القاهرية التي كانت تبث خطاباً معادياً لنظام دمشق، والصحيح فيها هو أن السفارة الهندية الكائنة آنذاك في حي المهاجرين، حيث كان يقطن كوهين، كانت قد اشتكت من تشويش تتعرض له أثناء بث رسائلها الصباحية فأوكلت المهمة إلى ضابط الإشارة السوري محمد داؤود البشير الذي استطاع بإجراء بسيط هو وقف البث نهائياً، من تحديد مكان الخرق ثم داهم شقة كوهين ليقبض عليه متلبساً في الشهر الأول من العام 1965.
ساعد في انتشار الأسطورة غياب الرواية الرسمية السورية لربما لاعتبارات أمنية كانت مبررة آنذاك، كما ساعد في تضخيمها أيضاً هزيمة حزيران 1967، إلا أن ذلك لم يعد قائماً الآن والخروج من ثقافة الهزيمة يقتضي، من بين ما يقتضي، خروج تلك الرواية من الأدراج التي طال سكناها فيها، لكن المؤكد ريثما يحدث ذلك أن رواية الموساد الأخيرة التي جسدها مسلسل الجاسوس تمثل حالة ستاتيكو فكري إن لم تكن تمثل تراجعاً في الأدوات يعيشه فكر الموساد، فالأسطورة تخرج إلى العلن في غفلة من الزمن تكون فيها الأرضية المستهدفة في حال عصبية ومتشنجة وفي الآن ذاته تستثمر في تلك الحالة التي يصبح فيها الجمهور المستهدف بحالة من القابلية لتلقي الكثير مما لا يمكن تلقيه في حالات مغايرة، هذه الحالة لم تعد قائمة الآن على الضفة العربية ثم إن محاولة إعادة إنتاجها، إذا لم تمتلك الأدوات وكذا المناخات مما لا يبدو متوافراً في حالتيه الآن، فإن المحاولة تصبح على درجة عالية من الخطورة تهدد بنسف ما تم بناؤه إن لم يكن نسف كفاءة «البناء» من أصلها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن