قضايا وآراء

في بلداننا.. هل تشكل صناديق الاقتراع رافعة كافية للحكم؟

| عبد المنعم علي عيسى

بعد أن أوصلت صناديق الاقتراع في تونس الرئيس قيس سعيد إلى قصر قرطاج الذي أعلن عن فوزه برئاسة تونس يوم 14 من تشرين الأول الماضي بنسبة وصلت إلى 77 بالمئة من أصوات المقترعين الذين بلغت نسبتهم 57 بالمئة ممن يحق لهم التصويت، يبرز إلى الواجهة سؤال يبدو ملحا هو: هل يستطيع الواصل إلى القصر عبر صناديق الاقتراع أن يحكم فعليا فيصبح هو الرئيس الفعلي للبلاد؟
ما يقود إلى هذا السؤال الأخير جملة من الأسباب أبرزها أن وصول سعيد اللامنتمي لحزب أو لتكتل سياسي منظم إلى الجولة الثانية رفقة مع رجل الأعمال نبيل القروي، وصولا إلى الفوز في هذي الأخيرة، كان قد اعتبر في الأوساط المتابعة، وفي الأمر ما يدعو إليه، زلزالا سياسيا قياسا إلى أن تلك النتائج كانت تعني نسفا بالـTNT لكل السطح السياسي الذي راكمته المرحلة الممتدة منذ استقلال تونس 1962 إلى حين حصول هذا الفعل الأخير بكل منعرجاتها ومحطاتها المهمة.
جرى التركيز في السيرة الذاتية للرئيس الفائز على أنه أكاديمي بارز ومثقف من الطراز الرفيع، كما أن له طروحاته المهمة في الإصلاح القضائي التي يرى من خلالها السبيل الوحيد للخروج من عنق الزجاجة الذي دخلته المنطقة منذ ربيع العام 2011، ليس في تونس فحسب بل في كل البلدان العربية التي شهدت فوضى وهي لا تزال مهددة بالمزيد منها، وهو، تضيف السيرة الذاتية أيضاً، ليس من أنصار «التهريج» الحاصل في الشارع العربي وفقاً لتوصيفه الذي أضاف فيه إن من الخطأ الركون إلى أهواء هذا الأخير الذي يكون عادة معبأ بخطاب العاطفة والمشاعر الحالمة بعيداً عن الدقائق والتفاصيل الحاكمة للمشهدين السياسي والاقتصادي وتاليا لحركة التطور التي يشهدها المجتمع.
تروي صفحات تابعة لأنصار الرئيس الجديد أن هذا الأخير كان قد علق على حادثة التعديل الدستوري التي أجريت في العام 2001 والتي أتاحت للرئيس الراحل زين العابدين بن علي الاستمرار في السلطة تحت شعار الانتقال من الجمهورية الأولى إلى الجمهورية الثانية، علق سعيد آنذاك على تلك الحادثة بالقول إن تونس لن تنتقل من الجمهورية الأولى إلى الثانية بل ستنتقل إلى الجمهورية الأولى مكرر، ثم تقول تلك الصفحات عينها إن الرئيس لطالما كانت لديه طروحات مزمنة عن الانتقال إلى الديمقرطية واستبدال «القمع والعنف» المستخدمين بنظائر لهما معاكسة.
بالتأكيد تمثل هذه الأفكار جنين مشروع سياسي يمثل من حيث النتيجة أملا لكل المهمشين والمحرومين أو بشكل عام لكل أولئك الذين يعيشون أوضاعاً حياتية صعبة، إلا أن العامل الأهم الغائب هنا الذي لم يجر الكشف عنه هو ماهية الأدوات التي سيستخدمها ذلك المشروع للوصول إلى الميناء المرجو الوصول إليه، بمعنى آخر ما الحامل الاجتماعي الذي سيكون قادرا على حمل المشروع خصوصاً بعد أن قال منظره إنه لا يراهن على «التهربج» في الشارع وهو قول يكتسب مشروعية كبيرة انطلاقا من التجارب العديدة التي تؤكد أن هيجان الشارع لا يفضي في أغلبية الأحيان إلا إلى حالات تدميرية خصوصاً إذا ما افتقد التنظيم والقيادة التي تمتلك رؤيا واضحة للخروج من الأزمات.
لا تنبع أهمية أي نظام سياسي أو صوابيته من مقاربته لمفاهيم مثل «العدالة والمساواة» أو وقوفه مع «الحق» في مواجهة «الباطل»، بل من خلال كونه استطاع، أو لم يستطع، تقديم منهج معرفي، متناغم أيضاً في السياسة والاقتصاد، قادر على حمل مجتمعه في مكان وزمان محددين لتحقيق مشروعه وإنجاز المهام الملقاة على عاتقهما، أي المجتمع والنظام معا، في حركة منسجمة تعي جيداً أثر التحولات الحاصلة في الداخل وعلاقتها بالمحيطين الأقرب فالأبعد.
كانت أخطر المواد المصدرة من الغرب إلى منطقتنا هي فكرة الديمقراطية بطبعتها المعروفة بصناديق الاقتراع، فالديمقراطية ليست قراراً سياسياً يتخذه حاكم أو حزب وإنما هي حالة تقود إليها، بل تفرضها، مجموعة من المعطيات أبرزها وصول طبقات المجتمع إلى درجة من النضج تصبح فيها تلك الطبقات مضطرة للاحتكام إلى القانون كوسيلة وحيدة لحل خلافاتها، والقول الأخير لا يعني بحال من الأحوال تبرير مراوحة السلطة لحين الوصول إلى تلك المرحلة، فهي يمكن أن تأخذ على عاتقها مهمة القيام بتحولات اقتصادية تقود بالضرورة إلى نظرة مجتمعية لها وهي تفضي إلى إعطاء طبقات المجتمع وقواه الفاعلة ثقلها الحقيقي الذي يكون غائبا في حالات غياب تلك التحولات، وهو ما يعطيها، أي يعطي تلك الطبقات، القدرة على التعبير عن نفسها عبر صور عديدة منها صناديق الاقتراع التي ستصبح كفيلة بإعطائها الأوزان التي تستحقها.
بعد الاستقلال السوري 1946 وصل الرئيس شكري القوتلي إلى السلطة، وهو كان فيها قبلا، عبر صناديق الاقتراع، لكنه لم يصمد فيها لأكثر من ثلاث سنوات حتى أسقطه انقلاب الجنرال حسني الزعيم في آذار من العام 1949، كان لذلك الانقلاب أسباب عديدة ومتشعبة أبرزها ارتدادات هزيمة الجيوش العربية في فلسطين على دواخل الكيانات العربية، وكذا يمكن وضعه في سياق المشاريع الإقليمية العديدة التي كانت تسعى كلها للسيطرة على سورية في سياق «لعبة أمم» كبرى شرحها عميل لـCIA اسمه مايلز كوبلاند في كتاب حمل هذا العنوان الأخير نفسه، إلا أن السياقات الداخلية للانقلاب تشير إلى بروز قوى اقتصادية واجتماعية وسطى، وإن اتخذت صورة عسكرية، كانت ترى أن توازنات السلطة القائمة على تعويم البرجوازية إنما تعمل على تهميشها، بمعنى آخر ترى أن توازن السلطة لا يعبر عن ميزان القوى القائم فعلياً، وأنها هي، أي تلك القوى، تمتلك القدرة على تغييره، ومن المؤكد أن الانقلاب كان قد حظي بتأييد كبير من الشارع ومن طيف واسع من الطبقات الوسطى كالتجار والصناعيين والحرفيين الصغار، قبيل أن يرتكب الزعيم خطأه الفادح بتسليم الزعيم أنطون سعادة رئيس ومؤسس الحزب القومي السوري الاجتماعي إلى السلطات اللبنانية التي أعدمته في تموز 1949.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن