سورية والصين والأمن في الشرق الأوسط: حوار حول التحديات وبلورة رؤى مشتركة للحلول
| فادي الإسبر
ينعقد في العاصمة الصينية بكين في السابع والعشرين والثامن والعشرين من الشهر الجاري منتدى دولي تحت شعار «أمن الشرق الأوسط في الوضع الجديد: التحديات والمخارج» سيشارك فيه قرابة مئتي مدعو من كبار المسؤولين والخبراء المؤثرين في مجال الإستراتيجية الدبلوماسية والشؤون الأمنية والدفاعية من الدول العربية والشرق الأوسط وأوروبا والولايات المتحدة، إضافة إلى المنظمات الإقليمية والدولية المعنية وممثلين من وزارة الخارجية ومكتب التعاون العسكري الدولي التابع للجنة العسكرية المركزية الصينية وبعض السفراء الصينيين السابقين والخبراء والباحثين الصينيين في الشؤون الإستراتيجية والأمنية والدفاعية من المراكز الفكرية.
يُعتبر هذا المنتدى هو الأول من نوعه الذي يُعقد في الصين من حيث المواضيع التي يناقشها، وقد تمت دعوة مؤسسة «وثيقة وطن»، التي تعمل اليوم على مشروع بحثي حول العلاقات السورية الصينية ومستقبل سورية ضمن «مبادرة الحزام والطريق» تحت إطار الإستراتيجية السورية «التوجه شرقاً»، للمشاركة في هذا المنتدى الدولي إلى جانب العديد من مراكز الأبحاث المهمة من الصين والعالم.
نظراً لأهمية المنتدى سيقوم مساعد وزير الخارجية الصيني تشن شياودونغ بإلقاء كلمته الافتتاحية وذلك قبل البدء بنقاشات موسعة بين الخبراء الصينيين والمدعوين تتوزع على مجموعة من المحاور الأساسية.
يناقش المؤتمر في محوره الأول «أهمية العدالة والإنصاف للأمن الدائم في الشرق الأوسط»، حيث يبحث المشاركون أسباب انعدام العدالة وأضرارها وكيفية إيجاد التوازن بين المبادئ والوقائع في سبيل صيانة العدالة، إضافة إلى سبل تسوية القضايا الساخنة بطرق سلمية. فيما يتناول المحور الثاني «التعددية والمقاربة لحل القضايا الساخنة»، ويشمل هذا المحور مجموعة من المواضيع منها فوائد التعددية لحل القضايا الساخنة في الشرق الأوسط وأضرار انعدامها وكيفية دفع وصيانة التعددية في المنطقة في ظل الوضع الحالي. أما مناقشات المحور الثالث فسوف تكون تحت عنوان «التنمية تعزز الأمن: شروط التحقيق وسبل التعاون»، ويغطي هذا المحور القضايا الأمنية الناجمة عن ضعف التنمية في الشرق الأوسط إضافة إلى مفهوم «التمنية تعزز الأمن» والشروط لتحقيقه. ويختتم المحور الرابع مداولات المؤتمر بمناقشة «دور حوار الحضارات في مكافحة الإرهاب ونزع التطرف»، حيث يتباحث المشاركون بما يجب اتخاذه من خطوات في سبيل مكافحة الإرهاب ونزع التطرف.
طرحت الصين في السنوات الماضية مفهوماً جديداً للأمن المشترك والمتكامل والتعاوني والمستدام يتخطى عقلية الحرب الباردة ويقوم على أربع ركائز مفاهيمية أساسية: يقوم «الأمن المشترك» على احترام وضمان أمن كل بلد بشكل متساوٍ وفق معادلة «رابح رابح» لا يكون فيها أمن أي بلد على حساب أمن بلد آخر. يستند الأمن المشترك إلى المبادئ الأساسية للعلاقات الدولية كاحترام سيادة الدول واستقلالها ووحدة أراضيها وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام حق الدول في اختيار الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية بإرادتها. تلك المبادئ نفسها التي سعت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون إلى تقويضها منذ نهاية الحرب الباردة عبر سياسات أحادية الجانب خارج إطار الشرعية الدولية من شن الحروب وفرض العقوبات الاقتصادية والتدخل في الشؤون الداخلية للدول. يقوم «الأمن المتكامل» على صيانة الأمن في المجالات التقليدية وغير التقليدية مع مراعاة الحيثيات التاريخية عبر اتخاذ إجراءات متعددة ومتكاملة لتعزيز الحوكمة الأمنية في العالم. يعزز «الأمن التعاوني» الثقة الإستراتيجية المتبادلة بين جميع الدول عبر الحوار والتعاون في سبيل تحقيق السلام وحل النزاعات بالطرق السلمية. أخيراً، يقوم «الأمن المستدام» على إعطاء الاهتمام نفسه للتنمية والأمن لتحقيق الأمن الدائم عبر تحسين معيشة الشعوب. في هذا الإطار أيضاً نرى تبايناً كبيراً مع السياسات الأميركية والتي تسعى اليوم إلى تقويض الأمن في سورية ولبنان والعراق وإيران وفنزويلا وحتى الصين نفسها عبر شن الحروب الاقتصادية والمالية.
أما بالنسبة لسياسة الصين في منطقة الشرق الأوسط فقد أكدت الحكومة الصينية عبر شخص الرئيس شي جينبينغ وغيره من المسؤولين أن الصين لا تسعى لإقامة «منطقة نفوذ» في الشرق الأوسط ولا تبحث عن وكلاء في المنطقة، بل تدفع باتجاه تشكيل «دائرة أصدقاء» ضمن مبادرة «الحزام والطريق» تكون نواة شبكة شركاء تحقق المنفعة المتبادلة بين الصين والدول الأخرى. تدعم الصين الحوار كسبيل لحل النزاعات في المنطقة بالتوازي مع التأكيد على أهمية احترام «المجتمع الدولي» لإرادة الدول صاحبة الشأن في القضايا المتنازع عليها. وترى الصين في التنمية مفتاحاً لحل معضلات الشرق الأوسط الأمنية، وعليه يجب بذل الجهود في سبيل تسريع عملية التنمية، حيث إن الحياة الكريمة هي وحدها التي ترجح كفة الأمل على اليأس في عقول الشباب وتبعدهم عن العنف والفكر المتطرف والإرهاب. في الوقت نفسه، يجب على السياسات التنموية أن تتطابق مع المصالح الوطنية للدول، فلا حلول جاهزة تأتي من الخارج، بل إن الطريق التنموي لأي بلد يرسم من شعبه بكامل إرادته، وتعد الصين التشاور بين الدول والذي يقوم على مبادئ العلاقات الدولية الآنفة الذكر الأساس في تحقيق مفهوم الأمن المشترك والمتكامل والتعاوني والمستدام، ومن هنا تأتي أهمية هذا المؤتمر، إذ يشهد وللمرة الأولى نقاشاً بين المتخصصين الصينيين ونظرائهم من دول المنطقة حول قضايا الأمن والتعددية والتنمية بهدف بلورة رؤية مشتركة تكون أساساً للحوارات والمشاورات المستقبلية.
إن المشاركة السورية في بلورة رؤى مشتركة مع الصين حول قضايا الأمن والعدالة والتنمية في الشرق الأوسط أمر حيوي لمصلحة البلدين والمصلحة العربية عموماً. تعرضت سورية للاستهداف بشكل متواصل خلال العقود الثلاثة الماضية التي شهدت هيمنة الولايات المتحدة الأميركية على النظام الدولي، والذي تحول إلى نظام أحادي القطبية عقب تفكك الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة مطلع التسعينيات من القرن الماضي. وقد غدا قيام نظام دولي مرتكز على التعددية تنكسر فيه الهيمنة الأميركية المطلقة وتتعزز فيه مبادئ احترام سيادة الدول واستقلالها وسلامة أراضيها، شرطاً أساسياً لتحقيق العدالة والأمن والتنمية المستدامة في المنطقة والعالم. لقد أكد الرئيس بشار الأسد أن كلاً من روسيا والصين عبر استعمالهما حق النقض الفيتو في مجلس الأمن الدولي خلال الأزمة التي شهدتها سورية ضد قرارات تستهدف سيادة سورية واستقلالها، قد أعادتا شكلاً من التوازن السياسي داخل الأمم المتحدة، والتي قامت في الأساس لحماية الاستقرار العالمي في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية. إن التعددية في النظام الدولي لا تشكل فقط حلاً للمشكلات الراهنة بل هي ضمانة لمستقبل آمن ومزدهر في المنطقة والعالم.
إلى جانب التعددية السياسية في المحافل الدولية وأهميتها في حفظ الأمن في المنطقة عبر السعي لوقف السياسات العدوانية للولايات المتحدة والتي ضربت الاستقرار في سورية والعراق وليبيا واليمن والمنطقة برمتها، لا بد من جهد متظافر في إطار مكافحة الإرهاب والتي تُعد أساس حل الأزمة في سورية. توجد على الأراضي السورية اليوم أعداد كبيرة من الإرهابيين الذين تم استقدامهم من عشرات الدول حول العالم وتم تمويلهم وتسليحهم من جهات دولية وإقليمية وإدخالهم إلى سورية وخاصة عبر تركيا، ويوجد القسم الأكبر منهم اليوم في مناطق سيطرة التنظيمات الإرهابية في محافظة إدلب تحت مسميات عديدة مثل «الحزب الإسلامي التركستاني»، الذي يضم إرهابيين يتحدرون من إثنية الإيغور التي تقطن غربي الصين ومن دول آسيا الوسطى، «وهيئة تحرير الشام» فرع تنظيم القاعدة في سورية، وغيرها.
إن مسؤولية مكافحة الإرهاب لا تقع على عاتق سورية وحدها، فالإرهاب مشكلة دولية وهو عدو الإنسانية جمعاء كما أكدت الصين وروسيا وغيرهما من الدول، لذلك فإن تحقيق الأمن والاستقرار بشكل مستدام يتطلب إيجاد سبل مشتركة لمكافحة الإرهاب بشكل حقيقي وفعال وليس عبر ما يسمى «التحالف الدولي لمحاربة داعش»، الذي تتخذ الولايات المتحدة منه ذريعة لاحتلال جزء من الأراضي السورية ونهب مقدراتها وثرواتها النفطية.
إن أساس الأمن في المنطقة هو تحقيق العدالة، ولا عدالة من دون إعادة الحقوق الشرعية لأصحابها، وإن إخفاق عملية السلام في المنطقة ناتج عن سياسات الولايات المتحدة التي سعت لتحقيق مصالح الكيان الصهيوني على حساب حقوق ومصالح العرب.
إن سورية دعت طوال عقود إلى تحقيق سلام عادل وشامل في المنطقة يعيد الحقوق لأصحابها ويحقق الأمن للجميع بشكل متساوٍ وعادل، وألا يكون أمن طرف على حساب أمن الأطراف الأخرى، وعليه، فإن أساس الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط هو عودة الجولان العربي السوري المحتل وحقوق الشعب الفلسطيني التي نصت عليها قرارات الشرعية الدولية.
إن سياسات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأحادية ومنها الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني وسيادة الأخير على الجولان العربي السوري المحتل وإضفاء الشرعية على المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية، قد ضربت بعرض الحائط كل قرارات الشرعية الدولية وزادت من التوتر في المنطقة بشكل كبير وأسقطت بشكل كامل ونهائي دور الولايات المتحدة كوسيط في عملية السلام. من جهتها، رفضت الصين القرارات الأميركية وشددت مراراً على ضرورة الالتزام بقرارات الشرعية الدولية التي تخص الجولان العربي السوري المحتل وحقوق الشعب الفلسطيني، ودعت إلى عدم تهميش القضية الفلسطينية أو وضعها في زاوية النسيان لأنها القضية الجذرية للسلام في الشرق الأوسط.
أخيراً وليس آخراً، تعتبر التنمية الاقتصادية الضمانة الأكثر أهمية للأمن والاستقرار المستدام سواء في الشرق الأوسط أم العالم. وفيما تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون اليوم إلى معاقبة الدول والشعوب، لا بل خنقهم اقتصادياً عبر اتخاذ إجراءات قسرية أحادية الجانب كتلك المتخذة ضد سورية ما يتسبب بالأزمات المتتالية ويحرم الدول من النهوض باقتصادها وتحقيق التنمية، وفي الحالة السورية تسعى هذه الإجراءات أيضاً إلى منع انطلاق عملية إعادة البناء في سورية.
إن ما تطرحه الصين اليوم من مشاريع لتطوير البينة التحتية وتنشيط التجارة وربط الدول والأقاليم من خلال «مبادرة الحزام والطريق» يشكل بديلاً مهماً للمنظومة المالية والاقتصادية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة. وعلى الصين ودول البريكس: روسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، تسريع الخطوات نحو إقامة هذا النظام الاقتصادي الدولي البديل في سبيل تحقيق التنمية الشاملة والعادلة والمنفعة المتبادلة.
إن وجود سورية في إطار «مبادرة الحزام والطريق» يتيح لها فرصاً اقتصادية مهمة وخاصة فيما يتعلق بعملية إعادة البناء والتي ستشكل ضمانةً لمستقبل مستقر وآمن، وعليه فمن الضروري استمرار الحوار السوري الصيني، وخاصة الحوار الفكري في سبيل بلورة رؤى مشتركة حول «الحزام والطريق» وجميع ما تقدم من قضايا يحقق مصلحة الشعبين والبلدين.
عضو مجلس أمناء وباحث في مؤسسة «وثيقة وطن»