قضايا وآراء

تحولات الماضي تستقرئ مآلات السياسة التركية في سورية

| عبد المنعم علي عيسى

في يوم 6 شباط من العام 2011، أي قبل أربعين يوماً من اندلاع الأزمة السورية، كان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يقوم برفقة نظيره السوري محمد ناجي عطري بوضع حجر الأساس لمشروع سد الصداقة على نهر العاصي، قبيل أن ينتقل لعقد مباحثات أجراها في حلب مع الرئيس بشار الأسد كان قد وصفها آنذاك بأنها الأهم في تاريخ العلاقة ما بين البلدين الصاعدة بقوة منذ أن تسلم حزب العدالة والتنمية مقاليد السلطة في أنقرة العام 2002.
بقيت أنقرة طوال شهر كامل امتد ما بين أواخر آذار وأواخر نيسان من العام 2011 صامتة وإن كانت ترقب بحذر شديد ما يجري على حدودها الجنوبية، لكنها بعد هذا التاريخ قررت أن تلتف، بعد تحديد وجهة الرياح الدولية التي أضحى أن من المفترض هبوبها على كامل أركان الكيان السوري، وما بعد هذا التاريخ الأخير عمدت إلى فتح قنوات اتصال مع دمشق، لكنها هذه المرة لم تكن تشبه تلك التي كانت قائمة على امتداد ما يقرب من عقد من الزمن كان قد مضى، حيث سيستمر عمل تلك القنوات على مدى أشهر أربعة قبيل أن تحط رحالها الأخير في أعقاب لقاء وزير الخارجية التركية أحمد داوود أوغلو مع الرئيس بشار الأسد في دمشق في التاسع من آب 2011 الذي عاد منه إلى عاصمة بلاده متوعداً سورية بلهيب لم تشهده في تاريخها.
تلا هذا التاريخ الأخير اجتماع لعدد من وزراء الخارجية الأميركيين والأوروبيين السابقين عقد في فندق «سورتا هاوس» بمدينة سنت مورتيز الواقعة في جنوب شرق سويسرا بين 10-12 حزيران 2011 وموضوعه الأبرز كيفية إسقاط النظام السوري من دون إشعال حرب كبرى في المنطقة.
كانت المحاولات التركية في غضون الأشهر الأربعة سابقة الذكر تستشرف آفاق التحالف غير المعلن الذي كانت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما قد عقدته مع تنظيم الإخوان المسلمين ممثلاً باتحاده العالمي الذي ترعاه كل من أنقرة والدوحة بقيادة الأولى ودعم وتمويل الأخيرة منذ مطلع العام 2011 وإلى أين يمكن أن يصل في حالته السورية، والمؤكد هو أن أنقرة لم تكن تثق تماماً بمتانة حبال ذلك التحالف وإلى أي مدى تستطيع تلك الحبال مقاومة عوامل الشد التي ستكون على موعد مؤكد معها قياساً إلى استثنائية الجغرافيا وحساسيتها، الأمر الذي يفسر قرارها المتأخر نسبياً لمدة لا تقل عن الشهرين عن دعوة أوباما لنظيره السوري إلى التنحي في آب من العام نفسه، حتى حزمت قرارها القاضي برمي ثقلها كله في الأزمة السورية بغرض إسقاط النظام القائم في دمشق، وهو ما شكل القرار الذي اتخذه مجلس شورى جماعة الإخوان المسلمين في سورية بحمل السلاح في مواجهة السلطة في منتصف شهر تشرين الأول من العام 2011 تعبيراً أكيداً عن ذلك الرمي.
شكل تأسيس «المجلس الوطني السوري» على أرض اسطنبول في الثاني من تشرين الأول 2011 تعبيراً أكيداً عن محاولة استنساخ السيناريو الليبي، فقد استطاع نظير هذا المجلس الليبي المستحدث في بنغازي ما بعد صدور القرار 1973 في آذار من هذا العام الأخير عبر استحضار الناتو إسقاط نظام العقيد معمر القذافي، إلا أن محاولة الاستنساخ السورية كانت قد اصطدمت بعد يومين فقط من تأسيس المجلس السوري بفيتو روسي صيني استشفت منه أنقرة حالة استعداد كل من موسكو وبكين للذهاب إلى تكرار مشهد رفع الأيادي في مجلس الأمن اعتراضاً على مسعى غربي خليجي ينوي استحضار سيناريو سقوط طرابلس الغرب، الحاصل أواخر آب، في دمشق من جديد.
حتى هذا التاريخ الأخير كانت مصر تشهد انزياحات تشي بوصول أكيد للإخوان المسلمين إلى سدة السلطة الأمر الذي حصل صيف العام 2012، والمشهد عينه كانت تتجه إليه أيضاً كل من تونس وليبيا ولربما اليمن في تراسيم تتخذ طابع رعاية أميركية تتبنى نسج خيوط الصورة التي تجهد أنقرة على وضع «التشطيبات» النهائية على إتمامها في المنطقة، إلا أن أردوغان كان مدركاً جيداً لحقيقة أن المشهد سيبقى ناقصاً، أو هو سيمضي إلى تفكك مربعاته من جديد، من دون سقوط دمشق، فثقافته العثمانية كانت تؤكد له أن مرج دابق 1516 كانت هي المفتاح الوحيد نحو سقوط المنطقة العربية برمتها تحت السيطرة العثمانية، ثم أن تفكك إمبراطورية الأجداد كان قد حصل عملياً في اللحظات التي دخلت فيها قوات الثورة العربية إلى دمشق في تشرين الثاني من العام 1918، ولذا فقد تحول أردوغان بعد تلمسه لاستحالة حدوث تدخل للناتو في سورية نحو دعم «الإخوان المسلمين» وصولاً إلى «أحرار الشام» و«جبهة النصرة»، فاتحاً الأراضي التركية على مصراعيها لحركة كل تلك الفصائل التي كان مدركاً أن نجاحها في ما هو مأمول منها هو أمر مرتبط بزمن محدد لن يكون طويلاً قياساً للتحولات التي كان المشهد الدولي ينذر بها من بعيد، وفي ذاك سعى إلى توسعة الجبهات في مواجهة دمشق لنراه يمضي إلى تلاقيات مع الرياض مستغلاً حاجة هذي الأخيرة للصمت التركي إبان قرارها بالتدخل العسكري في اليمن الذي حدث مطلع ربيع العام 2013، الأمر الذي أفضى آنذاك إلى تلاقيات أنقرة بالرياض في آذار من هذا العام الأخير التي أدت إلى سيطرة «جيش الفتح» على إدلب أواخر هذا الشهر الأخير.
شكلت حادثة مقتل السفير الأميركي في بنغازي في الذكرى الحادية عشرة لأحداث أيلول في نيويورك بداية القطيعة الأميركية مع تنظيم الإخوان المسلمين، وهذي الأخيرة تأكدت في اتفاق سيرغي لافروف جون كيري في موسكو مطلع أيار من العام 2013، والراجح هو أن هذا الاتفاق الأخير على الرغم من تعثره أمام جدران البنتاغون إلا أنه كان القاعدة التي أسست لتوافق أميركي روسي أفضى إلى «عاصفة السوخوي» التي انطلقت في اليوم الأخير من أيلول عام 2015، حيث ستشكل هذي الأخيرة بالتوازي مع قيام التحالف الدولي لمحاربة داعش الذي استحضر المكون الكردي في سورية أداة رئيسية له مفترق طرق بالنسبة لسياسات أنقرة التي وجدت نفسها مضطرة لتهميش دعمها للإسلاميين بعد تنامي قوة حزب العمال الكردستاني الذي وجدت فيه خطراً يتهدد الجغرافيا التركية ولا بديل عن مواجهته، الأمر الذي تم عبر ثلاثة مراحل لم تكن لتتم لولا تقاربات رجب طيب أردوغان مع موسكو التي جاءت بعد ثلاثة أسابيع من محاولة الانقلاب عليه، أولها كان في جرابلس إعزاز آب 2016، ثم في عفرين شباط 2018، وآخرها كان الشرق بتشرين الأول الماضي، حيث ستظهر المراحل الثلاث تحويلاً تركياً لجهد المسلحين الإسلاميين الموالين لها لمحاربة الأكراد بعد أن كان الهدف من ذلك الجهد هو محاربة دمشق.
هذا السياق السابق في التلونات التركية تبعاً لتلونات الخارجين الروسي والأميركي، مهم لقضايا عديدة أبرزها تعثر العملية السياسية في جنيف في جولتها الأخيرة أواخر الشهر الماضي التي لم تنعقد والأهم أنها لم تفض إلى موعد محدد للجولة المقبلة، فأردوغان، عبر وفده، يسعى إلى إنضاج مقايضات تتيح له المزيد من السيطرة على رقع جغرافية في سورية مما سيمكنه من تثقيل الدور التركي في أي تسوية يمكن الوصول إليها عبر طاولات التفاوض.
نقطة التجاذب الكبرى الآن تكمن في أن موسكو متمسكة بعلاقتها المتينة مع أنقرة تحت أي سقف لأنها ترى في تلك العلاقة خنجراً في نحر الناتو لا يجب التفريط به، أما واشنطن فهي جاهدة، وستجهد لاحقاً أكثر، نحو انتزاع ذلك الخنجر وبأي أثمان تكلف ذلك ولربما سيكون الأقل تكلفة فيها هو تقدمة «الرؤوس الكردية الحامية» على طبق من ذهب إلى أنقرة حين تنضج التوافقات الكبرى، وهذي الأخيرة ستستحضر حتماً تقديم أردوغان «مسلحي إدلب» لكل من دمشق وموسكو عربوناً لغطاء تقدمه هذي الأخيرة لاجتثاث «الخطر الكردي» من جذوره الذي تراه رابضاً ومتربصاً بها في الشرق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن