قضايا وآراء

ركوب الموجة أميركياً

| محمد نادر العمري

يبدو ثابتاً أن السلوك السياسي الأميركي تجاه الشرق الأوسط مازال متمسكاً بمحدداته لتحقيق أهدافه الجيوسياسية في صراعه مع محور المقاومة ومحاولة احتواء النفوذين الروسي والصيني، مستثمراً في هذا التوقيت الحراك الاجتماعي والاقتصادي المحق في لبنان والعراق، وخلق ظروف مماثلة لإيجاد ثغرات في جدار النسيج الاجتماعي الإيراني لتعميم النموذجين السابقين بها، ودغدغة الشعور الانفصالي لقسد لمنع أي حل سياسي سوري، وتوظيف ذلك برمته سياسياً ما يحقق بعضاً من أجندات واشنطن التي عجزت عن الوصول إليها بتهديد اللجوء للقوة العسكرية.
ففي الساحات الجغرافية المتصلة من لبنان إلى سورية وصولاً للعراق ومن ثم إيران، فإن واشنطن لم تخفِ دورها وتأثيرها وتدخلها لتوظيف كل ما يجري لمصلحة سياستها الرامية إلى إنتاج الفوضى، حيث سارعت هذه الإدارة إلى رفع منسوب الاحتقان والتجييش الشعبي بهذه الدول ضد الحكومات عبر استثمار وسائل التواصل الاجتماعي وفضاء الميديا.
العودة بالذاكرة قليلاً مفيدٌ هنا، وخاصة مع تراكم الانتصارات السياسية والعسكرية التي حققها محور المقاومة في القضاء على الإرهاب وتغيير قواعد الاشتباك مع الكيان الإسرائيلي، فإن واشنطن وتل أبيب سارعتا إلى استخدام كامل نفوذهما لتصنيف القوى العسكرية الفاعلة وكل من يرتبط بها ضمن قوائم الإرهاب في أميركا وأوروبا وبصورة خاصة الحرس الثوري الإيراني وحزب اللـه وحركة النجباء، بعد ذلك تتالت العمليات العسكرية العدوانية «دون الحربية» ضد مواقع هذه القوى في مناطق تموضعها وتمركزها في الجغرافيتين السورية والعراقية ولم يتوان القادة الأمنيون والسياسيون لدى دولة الاحتلال بتبني هذه العمليات أو التهديد بها.
إذاً ما المراد من ركوب موجة الاحتجاجات المحقة، وهل واشنطن بريئة من توظيف هذه الاحتجاجات لتعميم الفوضى ولماذا؟
وفق دارسي علم العلاقات الدولية فإن واشنطن تبرع في تطوير أجيال الحروب وخاصة الجيلين الرابع والخامس، فهما أقل تكلفة بالنسبة لها لذلك يطلق عليهما في بعض الأحيان «الحرب الصفرية»، وغالباً تكون نتائجهما مدمرة على صعيد استهداف النسيج الاجتماعي في الدول التي تتعرض لهما، وجميع المؤشرات تفيد أن واشنطن تلجأ بهذا التوقيت للجيل الخامس الذي يعتمد بالدرجة الأولى على استغلال أي خطأ حكومي وخروج احتجاجات رافضة، ومن ثم نشر «الإشاعات» المركزة عبر وسائل التواصل الاجتماعي في استثمار الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي للمواطنين نتيجة الحصار الاقتصادي الخارجي، واتساع رقعة الفساد والعمل على زعزعة ثقة المواطنين بقدرة الحكومات على تحسين أداء مؤسسات الدول، ودفعهم عبر الفضاء الإلكتروني للمطالبة بإسقاط الحكومات لحصول فراغ سياسي وحصول صدام مع مؤسستي الجيش والأمن بشكل تدريجي ومنظم ما يشوه صورة هذه المؤسسات الضامنة للأمن مع تسرب دخول الأسلحة بشكل هادئ وسلس، وفي بعض الأحيان تهيئ المناخ الجاذب للتنظيمات الإرهابية الأمر الذي يفرض الفوضى والشلل ويتيح للدور الخارجي التدخل العسكري لفرض رؤيته سياسياً.
فالدول التي تعتمد هذا النوع من الحروب تتبنى الفساد وتدعم انتشاره ووصول الفاسدين للسلطة، لأن الفساد يحافظ على استنزاف هذه الدول وهي في الوقت ذاته تروج عبر وسائل التواصل الاجتماعي أشكالاً متعددة للضغط عبر نشر حالات تتمثل بتوزيع المخدرات وتغييب العقل والدعوة للانتحار ونشر هذه الحالات عبر وسائل الإعلام المتنوعة على أنها نماذج من نتائج فساد الحكومات.
وهذا ما شهدته الساحة العراقية تماماً وما يراد للبنان أيضاً، فكلا النظامين يسودهما «فساد دستوري» تم ترسيخه وهندسته من فرنسا بالنسبة للثانية وعبر المندوب السامي الأميركي بالنسبة للأولى، وكلا الدولتين تعرضتا لحصار وضغوط على مر السنوات السابقة من صقور الإدارة الأميركية الذين يدعون اليوم وقوفهم إلى جانب المحتجين لتحقيق مطالبهم… فما الهدف من ذلك؟
السلوك الأميركي بالعنوان العريض يندرج ضمن إستراتيجية «اللجوء للحرب الناعمة لإسقاط محور المقاومة داخلياً» في ظل عدم نجاعة الخيار العسكري، وهذه الحرب من أخطر الحروب وأشدها على محور المقاومة، لأنها تسعى إلى الفوضى المدمرة عبر تصغير دائرة الاقتتال ولكن بتأثير أخطر كالحالة العراقية «الصراع الشيعي- الشيعي» ومحاولة تعميمها على مستوى المنطقة، وذلك بغية:
1- التأثير بالمشهد السوري سياسياً من خلال إحكام الحصار الاقتصادي الخانق على سورية، وهذا الحصار اتخذ أشكالاً متعددة ابتداء من العقوبات ومن ثم سرقة البنى التحتية وتدميرها وصولاً لسرقة النفط السوري بصورة علنية وانتهاء بإغلاق المصارف في لبنان وشل حركة المؤسسات بالعراق، لخنق الرئة الاقتصادية السورية بالكامل وتقليب مزاج الشارع السوري ومحاولة إحداث خرق في الاستحقاقات الانتخابية الدستورية لعامي «2020، 2021» وفي هذا الإطار وضمن سياسة الخنق الاقتصادي قد تلجأ واشنطن خلال الفترة القادمة لإصدار «قانون قيصر» الذي يفرض العقوبات على الدول والشخصيات التي تتعاون مع الدولة السورية، لإفراغ أي عودة للعلاقات الدبلوماسية مع سورية من جدواها الاقتصادية ولتعطيل الحل السياسي بهذا التوقيت.
2- تشويه وشيطنة القوى العسكرية في كل دول محور المقاومة من مؤسسات رسمية «الجيش، الأمن» أو الحركات التي تشكل قوى فاعلة ومؤثرة، بالتزامن مع استمرار العمليات العدوانية الإسرائيلية بضوء أخضر وحماية أميركية في استهداف نقاط تموضع حركات المقاومة ومخازن أسلحتها وخاصة على طول الحدود السورية العراقية المشتركة وكذلك في الجنوب السوري وريف دمشق بذريعة أنها تشكل خطراً على الأمن القومي الإسرائيلي وأنها تمثل امتداداً للنفوذ الإيراني والحرس الثوري، من دون استبعاد خيار اللجوء نحو «سياسية الاغتيالات المنظمة» التي ترمي لإشعال الفوضى عبر اتهام الفرقاء السياسيين بتصفية حساباتهم، والساحتان العراقية واللبنانية مرجحتان لأن تشهدا مثل ذلك، وخاصة بعد محاولة استهداف رئيس تيار الصدر، وأحداث «السنك والخلاني» التي وقعت يوم الجمعة الماضي لاتهام الحشد الشعبي بقمع المتظاهرين وإدخاله في صراع معهم بالتزامن مع تحركات تنبئ بعودة داعش في ديالى ونينوى وصلاح الدين، وفي الوقت ذاته يتم تشويه صورة حزب اللـه في لبنان من خلال اتهامه بتوظيف قدراته العسكرية في سلب القرار السياسي، وقمع المتظاهرين ورعايته للفساد، وهذا يوصلنا لنتيجة مفادها «محاولة واشنطن إحداث صدام مابين الجيش مع حركات المقاومة أو الزج بالبيئة الراعية للمقاومة في صدام مع هذه الحركات».
3- إعادة إحياء تنظيم داعش بعد تأمين الظروف الأمنية المضطربة، وضمن هذا الإطار يمكن ذكر عدد من المؤشرات حول ذلك:
• نقل ما يزيد على ألف عنصر بعد معركة الباغوز نحو الحدود العراقية السورية من واشنطن.
• هروب ما يزيد على 380 من عناصر التنظيم من سجون قسد أثناء العدوان التركي على الشمال السوري، بالتزامن مع نقل واشنطن ما يزيد على 275 عنصراً أجنبياً من هذه السجون نحو جهات مجهولة، وإخراج المئات من أسر داعش وبعض العناصر من مخيم الهول.
• الزيارات السرية التي قام بها مسؤولو إقليم كردستان العراق للإمارات العربية المتحدة، وفي مقدمهم رئيس الإقليم ورئيس حكومته ولقاؤهم ولي العهد السعودي ومستشار الأمن القومي الإماراتي وما تلا ذلك من وصول شحنة أسلحة تحملها طائرة إماراتية من دون علم حكومة المركز في بغداد.
مسارعة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لدعوة واشنطن لاستثمار الوضع الذي وصفه «بالذهبي» في هذه الدول لاستهداف إيران ومحور المقاومة، ما يدل أن المرحلة القادمة ستضع معها المنطقة على صفيح ساخن سواء لتوظيف ذلك في الانتخابات الداخلية الإسرائيلية الأميركية على حد سواءٍ، أو لتحسين الظروف التفاوضية، أو للقيام بمغامرة قد لا يحمد عقباها… ومع ذلك فإن دول محور المقاومة تتحمل جزءاً من مسؤولية الثغرات الداخلية التي أتاحت لواشنطن التدخل وعليها ترجمة محاربة الفساد بأسرع وقت مهما كانت النتيجة، فالصمود وأساس القوة هو المواطن والتماسك الاجتماعي، وما حصل في الاتحاد السوفييتي نموذج يجب الحذر منه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن