قضايا وآراء

السبعون عتبة الشيخوخة

| عبد المنعم علي عيسى

لم تكن فكرة قيام حلف الناتو أميركية المنشأ، فحتى ذلك الوقت الذي نشأ فيه هذا الأخير ربيع عام 1949 كانت الولايات المتحدة لا تزال تعيش مناخات مبدأ مونرو 1823 الذي أوصى بوجوب الابتعاد عن مشاكل العالم القديم، لكنها كانت أوروبية بامتياز تستلهم فكرتها من مدرسة الفكر الأطلسية التي تقول بأن العوامل الجامعة للشعوب على ضفتي الأطلسي تقتضي التلاقي في كل الساحات والمفارق والطرقات، وفي تحديد علائم الكيان الوليد سيقول اللورد أسماي الأمين العام الأول للحلف في أعقاب التأسيس: «هدف المنظمة هو إبقاء الروس خارجاً، والأميركيين داخلاً، وإسقاط الألمان».
فرضت التطورات الحاصلة بدءاً من منتصف القرن العشرين خروج واشنطن من حالة الفتور التي أبدتها تجاه الفكرة التي أضحت واقعاً في حينها، حيث ستشكل الحرب في شبه الجزيرة الكورية 1950-1953 والإعلان عن تأسيس حلف وارسو الذي جعل من دول أوروبا الشرقية تنضوي تحت المظلة السوفيتية عام 1955 حافزاً اضطر الأميركيين إلى الإقلاع عن حال الفتور ومن ثم الولوج إلى حال السخونة.
في الواقع كان بروز «المكارثية» كنهج سياسي يهدف إلى تطويق الشيوعية، قد مثل مرتكزاً داخلياً لحالة الولوج سابقة الذكر، وفي غضون التمرحلات التي شهدتها هذي الحالة الأخيرة كانت عوامل اختلال الثقة داخل الحلف تظهر ما بين الشقوق وهو ما بدا فاقعاً في إعلان فرنسا شارل ديغول عام 1966 الخروج عن مظلة الحلف النووية وابتناء مظلة نووية فرنسية مستقلة، إلا أن التحديات التي مثلتها تنامي القدرات السوفيتية منذ مطلع السبعينيات بالتزامن مع الحرب الفيتنامية 1964-1975 والفشل الأميركي فيها كانا قد فرضا تقزيم «المنحى» الفرنسي لمصلحة خلق حالة من التراص في مواجهة اختلال ميزان القوى الذي أضحى آنذاك لمصلحة حلف وارسو كما تؤكد تقارير لمعاهد أميركية رصينة في ذلك الوقت.
شكل نجاح هنري كيسنجر في بكين إبان زيارته السرية لها في عام 1971 والتي أفضت إلى اجتذاب الصين إلى الصف الأميركي في المواجهة مع السوفييت ركيزة أساسية في اختلال ميزان القوى الدولي لمصلحة واشنطن، وهو ما أسس لبناء متين في المشروع الأميركي الرامي آنذاك إلى إسقاط الخصم السوفييتي بالضربة القاضية الأمر الذي حصل أواخر عام 1991.
لكن ذلك النجاح الباهر لم تنعكس آثاره الإيجابية المفترضة على بنية الحلف، بل على العكس فقد اكتشف الأوروبيون أن دخول عصر القطبية الأحادية ما بعد هذا التاريخ الأخير كان يعني بالنسبة للأميركيين انصياع «الكل» لسطوتهم ولا فرق هنا ما بين الصديق القديم أو العدو القديم، ظهر ذلك في الخلاف حول الغزو الأميركي للعراق 2003 ما بعد تلاقيات كانت أقرب إلى الإجماع الناتووي في يوغسلافيا 1999 وفي أفغانستان 2001.
هيمنت الخلافات على قمة الناتو في ذكراه السبعين التي انعقدت في لندن يومي 3 و4 من الشهر الجاري، بعد أن كانت الآمال في أن تكون تلك القمة تأكيداً لأن الحلف هو «أنجح حلف عسكري في التاريخ»، وفي اليوم الأخير الذي انتقلت فيه الاجتماعات إلى منتجع واتفورد بشمال لندن تبدت الانقسامات بشكل جلي حتمته محورية الخلافات التي كان من الصعب إيجاد نقاط تلاقٍ فيما بينها.
التفاوت بين الآمال المسبقة وبين النتائج اللاحقة كان طبيعياً قياساً إلى التوتر التركي الأميركي، والتوتر التركي الأوروبي المختلفين في الجذور والأغصان والثمار، وقياساً أيضاً إلى الاختلافات والرؤى المتفاوتة بين الأعضاء لحال الحلف الذي يجمع الكل اليوم بأنه ليس في أفضل حالاته لكنهم يختلفون في تبني النظريات والرؤى لإصلاحه، لكن القياس الأهم في هذا السياق، والذي يدركه الأوروبيون جيداً، هو في النظرة «الترامبية» الماضية في ترسيخ نفسها بقوة في السياسة الأميركية إلى ذلك الحلف، فمؤسسها الذي لا يزال حاكماً للولايات المتحدة ينظر إلى علاقة بلاده مع شركائه على الضفة الأخرى من الأطلسي على أنها من النوع الكابح للدور الأميركي على الصعيدين الاقتصادي والعسكري، وهي بذلك باتت تمثل عبئاً عليه وليس قوة له.
منذ القمة الثانية عشرة للحلف التي عقدت في العاصمة الإيطالية روما في تشرين الثاني من عام 1991 أي بعد ما يقرب من عام على انهيار الاتحاد السوفييتي، غاب عن بيانات القمم التي عقدت كلها توصيف روسيا وريث هذا الأخير كعدو يقف في مواجهة مصالح الناتو أو هو يتهدد أمن بلدانه، بل إن تلك البيانات كانت قد خلت من الإشارة إلى أي أعداء آخرين يمكن أن يكونوا ممثلين للحالتين السابقتين، وللمرة الأولى تأتي قمة لندن على الإيحاء، ولو عرضاً، لوضع الصين في منزلة تقترب من تلك الحالة، صحيح أن البيان الختامي للقمة لم يسمها عدواً بشكل صريح إلا أنه سماها خصماً «من الواجب السعي إلى تحليل وفهم التحديات التي يطرحها» والجملة الأخيرة تعني أن الخصم قابل أن يصبح عدواً وفقاً للتحليل والفهم سابقي الذكر، وتلك نظرة واقعية طالما أن الصين تحتل المرتبة الثانية عالمياً على سلم ترتيب الإنفاق العسكري، وهذي الإشارة الأخيرة بالتأكيد تصبح اهتماماً مسكوناً بالحرب أقله فيما تقوله تجارب التاريخ، أما الدعوة إلى الحوار مع موسكو، وهي تشكل ركناً أساسياً في سياسات ترامب، في محاولة عكسية هذه المرة لـ«فعلة» كيسنجر في السبعينيات، وكذا ركن جديد في سياسات إيمانويل ماكرون ظهر مؤخراً في حديثه لـ«الإيكونوميست» قبل أسابيع، فإن الرهان عليها يبدو ضعيفاً خصوصاً أن كلاً من بكين وموسكو كانتا قد استبقتا انعقاد القمة بيوم واحد بالإعلان عن بدء ضخ الغاز في أنابيب مشروع أطلق عليه اسم «قوة سيبيريا» والإعلان يحمل في طياته إشارة إلى إخفاق الرهانات الأميركية في جعل موسكو خنجراً في صدر الصعود الصاروخي للصين.
لربما اكتشف الناتو أخيراً أن وجود «العدو» هو أمر يعطي هالة أو مسحة من القداسة على الكيان بل يبرر استمراره بزخم يبقيه في حال مُرض من القوة، ولربما كان ذلك صحيحاً من وجهة نظر سياسية معنوية، إلا أن الأمر يبدو مختلفاً الآن عما كان عليه زمن الحرب الباردة، وعملية تصنيع العدو تبدو عملية تحتاج إلى قوالب لا تروق لكثيرين فاعلين في غرف صناعة القرار في الحلف.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن