قضايا وآراء

كما هو دون أوهام

| د. بسام أبو عبد الله

عندما كنا شباباً ترسخت في أذهاننا بعض المسلمات التي عملت عليها الدعاية الغربية لعقود وسنوات، حتى إن كثيراً من النخب التي درست في الجامعات الغربية نقلت تلك الانطباعات والآراء وحتى العقائد، لأجيال درست في الجامعات، وتحولت تلك الأجواء إلى مقدسات لا يمكن مناقشتها، ولا المس بها دون تدقيق أو نقد علمي، أو تمحيص في حقيقة هذه الطروحات.
كانت ومازالت هذه المقاربات تغزو عقولنا، وشغل ما يطرح في الغرب من أفكار ونظريات، أغلبية الاهتمام العلمي والأكاديمي وحتى الإعلامي، وكأننا أمام قناعات لا تهتز، ولا يجوز المس بها أو تناولها، وأضافت هذه المقاربات شيئاً مهماً وهو أننا دونيون أمام الغرب، وأننا شعوب متخلفة لا قدرة لديها على النهوض، وهو ما أدى إلى نشوء أجواء طاردة للإبداع في بلادنا، وأجواء تسليم بقدرة الغرب وضعفنا، بتفوق الغرب، ودونية شعوبنا وكوادرنا وعلمائنا، ولم يكن أحد ليناقش ويجادل في هذه المسلمات حتى وقت قريب.
بالطبع إن هذه المقاربة لا تعني أبداً أن الغرب لم يتقدم علمياً وتكنولوجياً، ولم يحقق قفزات حضارية صناعية، لكن هذا التقدم ترافق مع تضليل كبير في المفاهيم والقيم التي عمل الغرب على نشرها، وإفهامنا أنها هي القيم التي علينا السير خلفها، والعمل عليها، وكأنها وصفات طبية لا يمكن استبدالها، ومن هذه القيم التي روج لها قضية الحرية الإعلامية وتصوير وسائل الإعلام الغربية على أنها مصدر الحقيقة، والحقيقة وحدها غير القابلة للنقاش والجدل، إلى حد أننا اكتشفنا أن وسائل الإعلام الغربية منافقة، مزورة، مضللة، تخدم السياسات العامة لمن يمولها ويدعمها، وأن قيم الضمير، وأخلاق المهنة، وحرية الإعلام مجرد لغوٍ، لا لون ولا طعم ولا رائحة له.
الواقعية تتطلب منا أن ندرك أكثر من يمول ويدفع هو من يسيطر ويهيمن في الإعلام الغربي، أي ادفع لتحصل على ما تريد، وعندما ندقق في ملكية وسائل الإعلام في الغرب سنكتشف من يهيمن ويسيطر، ولماذا انتقاد إسرائيل ممنوع، والتغطية على جرائمها مطلوب، وتبرير إرهابها ضد الفلسطينيين مبرر، سنكتشف أن البترودولار يغزو وسائل الإعلام الغربية، ومراكز الأبحاث والدراسات، ولهذا فإن السعودية محمية، وقطر ديمقراطية، في حين سورية ديكتاتورية، ونظامها السياسي يقتل شعبه بالكيميائي، ويدمر بنيته التحتية، هكذا لأنه «سادي»، هذا ما قدمته وسائل الإعلام الغربية، والبترودولارية على مدى سنوات حول الحرب الفاشية ضد سورية الدولة والشعب والرئيس.
وسائل الإعلام الغربية تحدثت عن حرب أهلية، وما تزال تستخدم المصطلح نفسه، وتتحدث عن معارضة مظلومة من نظام قمعي، وأرادت إقناعنا أن هناك معارضة مسلحة ومعتدلة وداخلية وخارجية وسعودية وقطرية وأميركية وفرنسية، وأن أعضاء هذه المعارضة أبطال وطنيون يتنافخون شرفاً، دفاعاً عن شعبهم، وأنهم مساكين مظلومون، يأكلون ويشربون من تبرعات الثورة الميمونة، وأنهم إن وصلوا إلى السلطة فسوف ينشرون لنا «ديمقراطية آخر طبعة»، ديمقراطية تحب إسرائيل، وتكره إيران، ديمقراطية تتبرع بالجولان للإسرائيليين المساكين، لتظهر سلمية هؤلاء الديمقراطيين الجدد، ديمقراطية تشتم رئيس جمهوريتها، لكنها تنبطح أمام سلطان العثمانية الجديدة، وتقبّل يديه، ديمقراطية تجتث كل من يخالفها، ويخالف سوقيتها وعمالتها وقذارتها.
عملت وسائل الإعلام الغربية طيلة سنوات، وأنفقت مليارات الدولارات لشيطنة الرئيس بشار الأسد، والجيش العربي السوري، وكل من يقف مع بلده وشعبه بطريقة قذرة ووسخة، ألم تطرد مجلة «ديرشبيغل» الألمانية الشهيرة الصحفي كلاس ريلوتيوس الحائز على جوائز عالمية لقيامه بتلفيق تقارير إخبارية، أي تزويرها، حول الأحداث في سورية، ألم يستقل الصحفي طارق خوري من «النيوزويك» الأميركية قبل أيام لأنه أجرى تحقيقاً استقصائياً دحض فيه ادعاءات الهجوم الكيميائي في دوما في نيسان 2018، وهو ما يتعارض مع السياسة الأميركية المعتمدة، ونستطيع أن نعدد عشرات الأمثلة والنماذج التي تدحض أن الإعلام الغربي يتمتع بالحرية كما يدّعون.
البروفسور الأميركي المعروف نعوم تشومسكي في كتابه الشهير الذي نشر عام 1988 بعنوان «صناعة القبول» يؤكد أن وسائل الإعلام الغربية لديها مصافٍ دقيقة لا نراها، لأن أغلب وسائل الإعلام هي ملك لمجموعات كبرى تجارية، لا يعرف الجمهور عنها أي شيء، هدفها الربح والتخادم مع أصحاب المصالح، ليضيف لذلك أن هناك تواطؤاً بين وسائل الإعلام والحكومات التي تغذي الصحفيين بالأخبار والتحليلات والدراسات ليكتبوا تقاريرهم وأخبارهم، وإذا شذ أي صحفي عن القاعدة، ونشر مقالاً يثير حفيظة بعض الأطراف تمارس الضغوط عليه إلى حد التهديد بالقتل!
في تسعينيات القرن الماضي قصفت طائرات حلف شمال الأطلسي التلفزيون الصربي ما أدى لمقتل 16 صحفياً، ومع ذلك اعتبر المسؤولون الغربيون أن التلفزيون الصربي هو جزء من آلة القتل للدكتاتور سلوبودان ميلوسوفيتش حسب زعمهم، لكن وسائل الإعلام الغربية ليست جزءاً من آلة القتل في العراق وفلسطين واليمن وسورية، ووسائل الإعلام الغربية محظور عليها نشر أي شيء عن معاداة السامية، لكن مسموح لها بنشر ما يحتقر معتقدات المسلمين وحتى المسيحيين، مسموح لها بنشر ما يدعم روايات المؤسسات الحاكمة ومخططاتها، لكن من غير المسموح نشر الرأي الآخر الذي يدحض، ويفند ويجادل هذه الرواية.
ضمن هذا الإطار وهذا الفهم، يبدو واضحاً تماماً لماذا امتنعت محطة «Rai-News 24» الإيطالية عن بث المقابلة التي طلبتها هي مع الرئيس بشار الأسد، لأنها ستنسف وتدحض كل الرواية الغربية التي عملوا طيلة سنوات على تثبيتها في أذهان الرأي العام الأوروبي، وهم يدركون تماماً أن رأس جبل الجليد بدأ يظهر ويذوب، ويظهر من خلاله حجم الأكاذيب والتضليل التي روجوا لها في أوساط رأيهم العام، ونخبهم، ولكن السؤال إلى متى؟ خاصة أن سورية تتجه نحو انتصار تاريخي، والخوف لن يفيدهم بشيء، فهذا الغرب المنافق تتهاوى سردياته الواحدة تلو الأخرى، ولن ينفع معها حجب، ولا منع، والحقائق ستظهر عارية واضحة ليسقط معها كل أولئك المنافقين والدجالين الذين اعتاشوا على مأساة السوريين، وآلامهم ولتسقطهم شجاعة وبسالة وصلابة السوريين التي لم يعرفوها من قبل.
الأهم أن نتخلص مما يصفه الباحث العربي عبد الوهاب المسيري بالقول: «ثمة هزيمة داخلية في الفكر العربي تجعل من الغرب المرجعية الوحيدة، ومصدر المعرفة الأوحد».
انتصار سورية يجب أن يخلصنا من وهم الغرب، وكذبه ونفاقه لنتعاطى معه كما هو، دون أوهام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن