ثقافة وفن

الاستشارة عنوان الحضارة

| المحامي منيب هائل اليوسفي

من خلال اطلاعي على بعض الصفحات الإلكترونية ولاسيما تلك التي تعنى بالاستشارات الحقوقية، فقد هالني ما قرأته من أجوبة متناقضة، فمنها ما هو صحيح، ومنها ما هو غامض، حتى إن السائل نفسه يرتج عليه فهمه ومعرفته بين ما هو صحيح وبين ما هو خطأ، وفي حديث سابق ولأكثر من مرة تحدثت فيه عن ضرورة الاستشارة الحقوقية في حياتنا اليومية وخطورتها، وقد عتب علي بعض الزملاء حينها أني قصرت الكلام عن ضرورتها دون أن أوضح أصول طلب الاستشارة وآدابها.. وراح البعض يذكر لي بعض المفارقات التي جرت معه والتي لا تخلو من الطرافة.
حقيقة الأمر لم أكن أعني أن تصبح استشارة المحامي (سبيلاً) يأخذ منه الصادي والغادي متى شاء وأراد دونما ضوابط أو نواظم.

طلب الاستشارة له أصوله نص عليه قانون تنظيم مهنة المحاماة، كما أنه يخضع إلى آداب السلوك التي تحكم المجتمعات المتحضرة، فالأفراد والشركات وسائر الشخصيات المعنوية لا تقوم بعمل يعنى بالالتزام القانوني أو له صلة بالقانون دون أن ترجع إلى محاميها الخاص تسأله الرأي.

وكما هو معروف أهمية المحامي كالطبيب.. كما أن هناك الطب الدوائي هناك الطب الوقائي، فإذا كانت مهمة الأول العلاج فمهمة الثاني تجنب المرض وتفاديه، وما يصح قوله في الطب يصح في القانون.. إذ هناك الدعوى وهناك الاستشارة، فالدعوى علاج والاستشارة وقاية.
بعض الزملاء المحامين عندنا (ومع كل أسف) لم يعود الناس على ما هو في مصلحتهم، فالكثير من الناس لا يقيم وزناً للاستشارة ولا يعيرها اهتماماً، وإذا ما قرر أن يستشير فغالباً ما يصل إلى المحامي متأخراً (يكون الذي ضرب ضرب والذي هرب هرب) وعندها يجد المحامي نفسه أمام دعوى قائمة وليس أمام استشارة تسبق النزاع، حتى في حال قيام الدعوى لا يبادر صاحبها إلى زيارة مكتب المحامي إلا بعد أن يكون قد قطع شوطاً في جلساتها اعتقاداً منه أن في مقدوره معالجتها بنفسه.

وإذا أراد المواطن طلب الاستشارة من المحامي ظن البعض منهم أنها (دون أتعاب- مجانية لوجه الله تعالى) بل كل اعتقاده (الحكي ببلاش ما عليه مصاري) ونسي أن المحامي حينما أجاب عن سؤاله كان قد كلفه ذلك نصف عمره من دراسة.. وجامعة.. ومحاضرات.. وتمرين.. إلى آخره.
المحامي كالطبيب، والأخير في حقيقة الأمر ما هو إلا مستشار صحي، وإن ما يتقاضاه مقابل الكشف والمعاينة ليس أكثر من بدل استشارة، فلماذا المواطن يدفع للطبيب ثمن الاستشارة ويتردد في الدفع للمحامي..؟!
لا أنكر أن الكثير من هذا الوضع المتردي يتحمله بعض السادة الزملاء المحامين الذين نراهم يجيبون كل سائل عن سؤاله ولو أثناء مروره في الطريق أو أثناء ركوبه (التكسي) أو في المقهى أو حتى هناك على وسائل التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) وغيره.

البعض لا يتورع أن يحرج المحامي ويطلب منه الاستشارة أثناء سهرة عائلية، بل يخرج له من جيبه مستندات وأوراقاً تكفي أن تشغل المحامي طوال السهرة.
بتقديري هذا التخلف الحضاري أدى أن يعتاد المواطن طلب الاستشارة في كل زمان ومكان دون أن يرعى للاستشارة حرمة أو أن يقيم لها وزناً.

الاستشارة خطيرة النتائج، قد تكون سبباً في الإقدام على أمر أو الإحجام عنه، لهذا يتعين على المحامي ألا يعطي رأيه ارتجالاً، إنما عليه أن يدرس السؤال كما لو كان يدرس الدعوى، ثم يرجع إلى الوثائق إن وجدت، ثم إلى القانون يستفتيه قبل أن (يتبرع) هو بفتواه.
بعض الزملاء يتطوعون للإجابة على نحو (مسلوق) ظناً من هذا البعض أن الإجابة السريعة تزيد السائل قناعة بكفاءتهم وتوسع في شهرتهم.
بتقديري هذا خطأ، لأن السائل سرعان ما يستفتي سواه (مجاناً أيضاً) ويكشف التناقض في الإجابات، ولا ننسى أن هناك ممن ابتلاهم الله بداء الأسئلة القانونية يوجهنها إلى كل محام يلتقون به مصادفة أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي «وهات على أسئلة».

البعض من هؤلاء يرى في توجيه السؤال إلى المحامي في أوقات استجمامه وفترات راحته أو من خلال لقاء عابر نوعاً من المجاملة والتسلية ولا يدري هذا البعض أن ما يفعله «غلاظة» منه وإرهاقاً للمحامي.
في هذه الحالة على المحامي أن يتحاشى إعطاء الجواب مهما كان موجزاً ومختصراً وأن يطلب من السائل زيارته في المكتب ليسمعه الجواب ولو كان في حدود كلمة نعم أو لا.

والسبب: إن الاستشارة لها مركزها القانوني وهي جزء من أعمال المحاماة فلا يجوز بأي حال من الأحوال إهانتها في الطريق العام أو المقهى أو في سيارة التكسي أو غير ذلك، ثم على السائل أن يدرك حقاً أن الاستشارة مصدر «رزق للمحامي» فلا يجوز أن يبيحها لنفسه بلا مقابل أو أتعاب.
رب سائل يقول: وماذا بشأن هذه الاستشارات والفتاوى التي يوزعها البعض من المحامين يمنة ويسرة والى كل من يطلبها سواء عبر وسائل الإعلام أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي؟

أجيب: هذه الاستشارات في حقيقتها ما هي إلا جزء من التوعية الحقوقية الإعلامية ولاسيما أن مواقع التواصل أصبحت في الآونة الأخيرة منبراً إعلامياً وأن تلك الاستشارات في مضمونها الغاية منها خلق ثقافة حقوقية لدى المواطن أكثر من أن تكون حلولاً جذرية لمشاكل فردية، فالذي تعترضه مشكلة جادة لا ينتظر الجواب في برنامج إذاعي أو تلفزيوني أو يبحث عن حل لها من خلال بعض المواقع الالكترونية أو صفحات التواصل الاجتماعي، بل يسارع إلى مكتب المحامي يسأله الرأي، بل إن مهمة البرامج التلفزيونية والإذاعية وحتى صفحات التواصل الاجتماعي هي تحريض المواطن على أن يعتاد الاستشارة في مكتب المحامي لا أن تكون بديلاً منها، تماماً كالبرامج الصحية التي تحرض الموطن على ارتياد عيادة الطبيب لدى أول بادرة مرض.
من هذا يتضح أن الاستشارة أهم من الدعوى كما أن الطلب الوقائي أهم من الطب الدوائي، فالاستشارة وقاية، ومهما كانت كلفة هذه الوقاية تبقَ أقل بكثير من تكاليف الدعوى، وقديماً قالوا: درهم وقاية خير من قنطار علاج، كلما قلتها وأرغب في الجواب عنها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن