قضايا وآراء

صيد تركي في ماء عكر إقليمي

| عبد المنعم علي عيسى

في السادس والعشرين من شهر تشرين الثاني الماضي كان رئيس حكومة «الوفاق» الليبية فايز السراج في زيارة إلى دولة البحرين التقى في خلالها وفداً أميركياً وصف بأنه رفيع المستوى، وفي أعقاب ذلك اللقاء قرر السراج متابعة الرحلة إلى أنقرة، حيث سيعلن منها في اليوم التالي عن توقيع مذكرتي تفاهم بين الطرفين، الأولى تتعلق بالتعاون الأمني والثانية تتعلق بترسيم حدود المنطقة الاقتصادية في البحر المتوسط بين تركيا وليبيا.
لم تكن الاتفاقية الأولى المتعلقة بالأمن مدعاة لقلق إقليمي كبير نظراً لأن التدخل التركي في الحرب الليبية هو أمر واقع ولا يحتاج إلى مزيد من المعاهدات لإظهار متانته أو لتأكيد أنقرة لخياراتها فيه، إلا أن ذلك القلق ما كان له أن يظل قيد الصمت، كما فعل في الحالة الأولى، تجاه الاتفاق على ترسيم الحدود الذي من شأنه أن يدخل منطقة شرق المتوسط برمتها في صراع محتدم على النفط والغاز، والذي تقول التقديرات البحثية إن هذه الأخيرة تحوي منهما ما تزيد قيمته على 3 تريليونات من الدولارات الأميركية.
بداية لا بد من القول إن تفكير أنقرة بمسار كهذا لم يكن جديداً، فقد زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عندما كان يحمل صفة رئيس الوزراء التركي، طرابلس الغرب في تشرين الثاني من عام 2010، وفي حينها أجرى مباحثات مع نظام العقيد معمر القذافي كانت تتعلق بما سمي «المنطقة الاقتصادية» إلا أن انفجار الوضع في ليبيا بدءاً من آذار في العام الذي تلا تلك الزيارة كان قد أدى إلى توقف تلك المباحثات، الأمر الذي يفسر عدم تلهف أنقرة لعملية الناتو التي شنتها لإسقاط نظام القذافي ربيع عام 2011، وإن كانت الأخيرة قد اضطرت لمجاراتها، بعد أن تأكد لها حتمية وصولها إلى مراميها المعلنة، خوفاً من استئثار الأوروبيين بكعكة النفط أولاً، وتالياً بحساسية الموقع الذي شكلت فيه الجغرافيا الليبية لاحقاً «إزميلاً» لا غنى عنه لكسر حلقة الحصار، التي ضربت حول المشروع التركي منذ أن سقط حكم الإخوان المسلمين في القاهرة تموز من عام 2013.
نجاح أنقرة الذي كرسه تفاهما السابع والعشرين من تشرين الثاني الماضي هو صيد تركي ثمين في ماء عكر ليبي وإقليمي في آن، بعد أن طال طرح «الصنارة» وبها الطعم، والتاريخ الجديد الذي يمكن تأكيده لهذا الفعل الأخير هو مطلع عام 2018، لكنه بلغ الذروة في الوضوح في تشرين الثاني من العام نفسه عندما جرى طرح مذكرتي التفاهم على حكومة السراج لتوقيعهما، إلا أن الأخيرة تمنعت آنذاك خشية استثارة الأوروبيين تحسباً لردة أفعالهم، إلا أن تلك الخشية، والتحسب، زالتا مبرراتهما بعد إعلان «الجيش الوطني» بقيادة الجنرال خليفة حفتر عن بدء عملية «الكرامة» في نيسان الماضي، والتي هدفت إلى السيطرة على طرابلس تمهيداً لتوحيد البلاد، الأمر الذي كاد يتحقق لولا الفيتو الذي رفعته واشنطن أمام هذا الأخير متذرعة بأن ذلك، أي سقوط طرابلس، يجب ألا يتم قبيل نضوج معالم التسوية النهائية، وفي ظل ذلك التوازن الهش الذي أوجده الفيتو الأميركي على سقوط طرابلس مضت أنقرة في الاستثمار الأقصى لتلك الحالة، ظهر ذلك في تراجع الدعم التركي لقوات السراج، الذي سجلته أشهر أيلول وتشرين الأول الماضيين وصولاً إلى تشرين الثاني الذي لم ينته قبل أن يشهد سقوط «الثمرة» الليبية، أقله في الحالة التي تمثلها حكومة السراج من دون أن يعني ذلك أنها باتت في متناول الفم.
الآن اتضحت نظرية الأمن القومي التركي المعدلة، وربما نظرية أمن النظام، ما بعد الانهيارات التي شهدها المشروع التركي منذ التحول الجاري في القاهرة 3 تموز 2013، وهي تقوم على أمرين اثنين: أولاهما كسر الحصار البري الرامي إلى محاصرة تركيا عبر الأداة الكردية في الشرق السوري، وهو ما واجهته أنقرة بمراحل ثلاث: درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، وثانيهما كسر الحصار البحري الذي بدأ منذ الإعلان عن تأسيس «منتدى غاز شرق المتوسط» مطلع عام 2019، والذي ضم إليه إلى جانب إسرائيل كلاً من مصر والاردن واليونان وقبرص، وهو ما واجهته بمذكرتي التفاهم مع طرابلس الموقعتين في 27 تشرين الثاني الماضي، الأمر الذي يفسر قول أردوغان في مقابلة مع «تي آر تي» في 9 من الشهر الجاري بأن كلاً من مصر وإسرائيل واليونان وقبرص لا يمكن لها إنشاء خط نقل غاز طبيعي من المناطق التي حددها الاتفاق مع ليبيا من دون موافقة تركيا.
بات من المؤكد القول إن مذكرتي التفاهم التركية الليبية قد خلقتا واقعٱ إقليميٱ جديدٱ وهو يحمل بين ثناياه بوادر توتر، إن لم تكن مخاطر الانفجار، في منطقة مثقلة بالنزاعات والانقسامات والتدخلات، فيما النجاح في المرامي التركية يبدو محفوفاً بالمخاطر، تبعاً لحال الانقسام الليبي الداخلي، وتبعاً أيضاً لمواقف الخصوم الإقليميين الذين لن يقفوا متفرجين ولربما سريعاً ما سيصلون إلى نتيجة مفادها أن الخروج من المأزق لن يكون إلا بإسقاط حكومة السراج، وهو ما يبدو أردوغان متحسباً له، فقد أشار في مقابلته مع «تي آر تي» سابقة الذكر حين قال «إن حظر السلاح لا يمنع الحكومة الليبية من أن تطلب من دول أخرى نشر قواتها على الأراضي الليبية، وإذا ما حدث ذلك فسنتخذ قراراً».
زئبقية أنقرة ما بين موسكو وواشنطن تتيح لها هامش مناورة واسعاً في كسر الحصارين البري والبحري سابقي الذكر، إلا أن عمل الزئبق مرتبط بشرطي الحرارة والضغط اللذين ستشكل التحولات التركية الداخلية عاملاً حاكماً وناظماً له، فيما الأخيرة تبدو حبلى أو هي مفتوحة على احتمالات تخرج «الزئبق» عن طبيعته.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن