تحفل كتب التاريخ بأسماء العديد من الذين يقومون على تعليم الصغار مبادئ القراءة والكتابة، ونذكر منهم على سبيل المثال: الحجاج بن يوسف الثقفي، رجل الدولة الأموية زمن الخليفة عبد الملك بن مروان الذي كان معلماً للصغار في مطلع حياته بالطائف.
كما حدثنا الرحالة ابن جبير الأندلسي برحلته إلى مدينة دمشق بالقرن السادس للهجرة، وحدثنا ابن بطوطة بالنصف الأول من القرن الثامن للهجرة، كيف كان يستند كل واحد من الحافظين للقرآن الكريم، على أحد أعمدة (سواري) المسجد الأموي، ويجلس أمامه صبيّ يتلقى عنه القرآن الكريم.
وقد كانت القراءة والكتابة في مطلع القرن العشرين في أسوأ أحوالها عبر التاريخ، وذلك بسبب سياسة التتريك التي انتهجها الاتحاديون بالدولة العثمانية… وهذا أدّى إلى انتشار الكتاتيب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من صلتنا بلغتنا وتراثنا.
وقد كان انتشار هذه الكتاتيب بمبادرات فردية، ذلك أن السلطة لم تتدخل بتلك الكتاتيب، سواء من الشكل أم من حيث المضمون، كما أنها لم تقدم لها المساعدة أو التوجيه وإنما كان الشيخ ينشئها بدافع الواجب والكسب الحلال، الذي لم يكن أكثر من بعض المال الذي يتقاضاه أسبوعياً من ذوي التلاميذ، أما مقرّ هذه الكتاتيب، فكان لا يعدو عن غرفة أو غرفتين ملحقة بالمسجد، وأرضها مكسوّة بقطع من الحصر البلدية السميكة، فيجلس على الحصر الصبيان، متربعين على طراريح، أو قطع من السجاد أو البسط أو جلد خروف أو شاة يجلبها التلاميذ كلّ حسب طاقة ذويه.
وكان عدد المكتب يتراوح بين (20-30) تلميذاً ينقسمون إلى جماعات، بحيث كانت تقوم بين كل جماعة وجماعة عارضة خشبية يطلق عليها اسم رحلاية فيضعون عليها مصاحفهم وألواح الكتابة والكراريس، وقد كان يرأس كل جماعة عريف يدير أمور الجماعة، ويكون الصلة بين الجماعة والشيخ، أما مجلس الشيخ فلا يعدو عن دكّة مفروشة بطرّاحة بحيث يستطيع الشيخ أن يجعل التلاميذ تحت بصره وأمام الشيخ صندوق خشبي يضع عليه حوائجه من أقلام القصب والمحبرة وكراريس للتلاميذ.
ويكون الانضباط بالمكتب بمساعدة عصيّ مختلفة الأطوال، ينال بها الشيخ التلاميذ القريبين منه والبعيدين عنه، بحيث لا يدع الشيخ صبياً يخطئ من ضربة بعصا الشيخ دون أن يقوم الشيخ من مكانه. وإذا صدف وعِيل صبر الشيخ من ضبط التلاميذ، قام إليهم وأعمل عصاه بالجميع، مذنبين وأبرياء، أما إذا اشتط أحد التلاميذ فيكون نصيبه الفلقة.
والفلقة عصا غليظة ثقبت من طرفها، فيُدخل بأحد الطرفين حبل رفيع من المرس، بحيث يربط بإحكام، ويُدخل الطرف الآخر من الحبل بالثقب الآخر من عصا الفلقة ويُعقد بإحكام، وبذلك يكون الحبل المذكور متدلّياً، فإذا أخطأ الصبي يبطح أرضاً، وتوضع قدماه بين الحبل وعصا الفلقة، ثم تبرم العصا، فيشد الحبل على ساقيّ الصبي، فيرفعان إلى أعلى بمواجهة الشيخ الذي ينهال على قدمي الصبي بعصاه بمقدار الذنب الذي ارتكبه.
ولئن احتفظت الذاكرة بصور مؤثّرة عن الحياة في المكتب، فقد كان أكثرها أثراً وتأثيراً تلك الفلقة، وقد امتدت جذور هذه الفلقة إلى العصر العباسي الأول، بدلالة ما جاء في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني عن إبراهيم الموصّلي في تصوير أبو نواس للضرب بهذه الفلقة.
وإذا كانت الفلقة السلاح الأمضى بيد الشيخ، فقد كان من التلاميذ من يعمد إلى إخفاء هذه الفلقة، ولذلك فإن من المشايخ من يعمد إلى الاحتفاظ بأكثر من فلقة واحدة، ومع ذلك لدى الشيخ وسائل لتأديب من يخرج عن طوعه، ومن ذلك منع الصبي المشاكس من تناول طعام الغذاء، وحبسه في غرفة الحطب مشدود اليدين إلى الساقين، بعد طلي وجه ذلك الصبي بالدبس حتى يلتصق به الفئران، وذلك من باب زرع الخوف بالصبي فلا يعاود الخطأ، كما قد يطلب إلى الصبي أن يقف على رجل واحدة ويداه مرفوعتان إلى أعلى، ووجهه إلى الحائط.
والحياة بالمكتب أو الكُتّاب راتبة قاسية بالنسبة للتلاميذ بهذا المكتب، لعدم توافر أساليب التربية المعاصرة ووسائلها المعينة، وكان على الصبي بهذا المكتب أن يعيش مسلوب الإرادة والتفكير، وإذا بدرت منه حركة أو ضجّة فإن العصا تكون بانتظاره فضلاً عن الفلقة، وكان الصبيّ يصطحب معه إلى المكتب كيساً يُعلّقه من رقبته إلى تحت إبطه، فيضع بهذا الكيس حوائجه من لوح حجري، وقلم الكتابة باللّوح، وكراريس فضلاً عن زوّادة طعامه.
وعندما يوفد الصبي لأول مرّة إلى الكتّاب، كان يصطحبه والده على الأغلب فيسلّمه إلى الشيخ قائلاً: شيخي، مخدومك بعهدتك، بدنا إياك، تعلّمه وتحفّظه القرآن الكريم، هذا ابنك، اللحم إلك والعظم إلنا.
بمعنى أن الأب أو الوليّ قد سلّم الشيخ ذلك الصبيّ، فيعامله كيف يشاء، لتعليمه القراءة والكتابة وحفظ أو تلاوة القرآن الكريم.
ومن الجدير بالذكر، أن الدوام بالمكتب غير محدود الوقت، وإنما هو من الصباح إلى المساء أو الغروب، فكان لابد من تزويد الصبي بطعامه أو يرسل أهله ذلك الطعام خلال اليوم، فإن حان وقت الطعام، اقتيد التلاميذ إلى الموضأ فيغسلون أيديهم، ثم يجلسون جماعات متآلفة، بانتظار الإذن من الشيخ بابتداء تناول الطعام، بعد أن يستهلّ الجميع ذلك بصوت عال: بسم الله الرحمن الرحيم.
وبالتالي يفرد الشيخ صرّة طعامه، فيزترد ما حوته، بانتظار ما قد يؤثره به الصّبية من أطايب طعامهم، يهادونه بها، فيتقبلها بسرور، وهو يمايز بينها، ليتعرّف وضع من يهاديه من طعامه المادي.
أما خدمة المكتب، فيوزعها الشيخ على التلاميذ، ليتفرغ لاستقبال أولياء التلاميذ، ومراقبة كل صغيرة بالمكتب.
ويكون تواصل الشيخ مع أولياء التلاميذ، بوساطة التلاميذ أنفسهم، وذلك من خلال جمل أو كلام مبطن يعرف بواسطته الأهل حال أولادهم بالمكتب، ويتعرف الشيخ إلى حال التلميذ مع أهله بالبيت.
فإذا كان سلوك الصبي مع أهله غير مرض، فإنهم يطلبون إليه أن يقول للشيخ:
أبي بيسلم عليك وبيقول لك، إربط الجديّ بالعامود ونفض الحصيرة.
بمعنى أن ذلك الصبي يلزمه العقوبة المناسبة من الشيخ حتى يتحسن سلوكه وحفظه لدروسه.