من دفتر الوطن

ما بعد الحروب

| زياد حيدر

في فيلم وثائقي أجنبي، شاهدته في التسعينيات، تحدثت امرأة في الفيلم الذي شاهدته وأنا يافع، أن مدينتها وهي القنيطرة بآثارها المدمرة تركت كما هي، كي نتذكر ما فعله بنا عدونا «لأن ذاكرة العرب قصيرة» وفقاً للعبارة التي تنهي بها الفيلم.
تذكرت العبارة، وأنا أخوض منذ فترة في ذاكرة الحرب العالمية الثانية، والتي حررت في مجلدات، وصورت في برامج، أعيد إنتاجها عدة مرات، حتى تم تلوينها بأحدث التقنيات الفيلمية.
الشهية للقراءة والمعرفة، ربما مردها حروبنا التي لا تنتهي، ونزعات القتال التي لا تخبو، والصراعات الكبرى التي تلد صراعات أكبر. وربما سببه البحث الذاتي عن مبعث للأمل، زاوية فرج، عن تكتيك، أو إستراتيجية، تم اتباعها في الدول التي أحرقت فيها مدن عن بكرة أبيها، ودمرت في لحظات أحياناً، وبشكل متعمد، ووفق نهج وسياسة تدمير وانتقام صريحة، بعضها كان مستنداً لإيمان بتفوق عرقي عنصري بحت.
في الحرب العالمية الثانية، دمرت الولايات المتحدة الأميركية ناغازاكي بضربة ذرية واحدة، بعد أن قامت بتدمير شقيقتها هيروشيما بقنبلة نووية، كانت تجرب للمرة الأولى عسكرياً.
كان اسم القنبلة الأولى «الفتى السمين» واسم الثانية «الطفل الصغير» وكل من القنبلتين تمكن من قتل سبعين ألف شخص في الثانية الأولى من التفجير.
كانت الولايات المتحدة جربت قصفاً تقليدياً لطوكيو بحوالي 1600 طن من القنابل المتفجرة، والنابالم، أحرقت فيه القسم الأكبر من المدينة في ليلة واحدة، ولكن الجيش الياباني رفض الاستماع للإمبراطور بنصيحة الاستسلام، وإنقاذ ما تبقى، ورفض الاستماع إليه في المرة الثانية بعد هيروشيما، ورفض رفضاً قاطعاً الحديث في الأمر في المرة الثالثة، حتى تحايل الرجل المهزوم والقلق على ما تبقى من بلده، فأعلن استسلام اليابان إذاعياً، ما دفع جنوداً وضباطاً كثيرين للانتحار علناً.
أصبح البلدان بعدها حليفين. ضبطت ساعة اليابان الإنتاجية على إيقاع الولايات المتحدة الاقتصادي، لكن النزعة اليابانية للتفوق، لم تقبل أسرى، وعملت على الابتكار، وركزت جهودها في المجال العلمي، والصناعي، حتى تفوقت على رعاتها ومحتليها، وغزتهم بطريقتها الخاصة لاحقاً.
كانت ألمانيا المهزومة بدورها منقسمة ومحطمة ومنزوعة السلاح والكرامة. وكان الألمان حتى عقود قريبة مضت، مكروهين في أوروبا، ولهجتهم ثقيلة الأثر، وكلامهم يذكر أجيالاً كاملة بتلك الحرب المجنونة، التي قتلت عشرات الملايين بظرف أربع سنوات. هم أنفسهم لم يكونوا بلا حقد، فرغم جنون قائدهم أدولف هتلر حينها، فإنهم لم يتقبلوا فكرة انحباس قوميتهم في إطار رضا الحليفين الأميركي والسوفييتي، من دون التقليل أيضاً من ألم رؤية مدنهم مدمرة، وشعبهم جائعاً. لكن نهضت ألمانيا، بجد ومثابرة، واختارت لنفسها الطريق الذي يعيدها لتبوّؤ مركزها التقليدي بين دول العالم المتقدم، لا الانتقام، وذلك ليس للمرة الأولى في تاريخها، بل المرة الثانية، على الأقل في العصر الحديث، بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.
وبالطبع لم تنهض ألمانيا وحدها، كما لم تفعل اليابان وحدها، والأمر ذاته يقال عن بريطانيا التي واجهت صعوبات جمة بعد الحرب العالمية الثانية، للعودة باقتصادها لموقع متقدم عالمياً، كما جرى الأمر ذاته في إسبانيا بعد حربها الأهلية ثلاثينيات القرن الماضي.
تأتي الحروب وتذهب، لكن النهوض بعدها، لا يحتاج إلى عزيمة وإرادة فقط، بل يحتاج إلى خطة، ونهج، كما يحتاج أيضاً إلى دعم الأصدقاء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن