قضايا وآراء

وأخيراً إعلان مسوّدة «الصفقة المهزلة»

| د. يوسف جاد الحق

يبدو أن بني صهيون استمرؤوا أسلوب المماطلة والتسويف فمضوا يتحدثون عما سموه صفقة القرن عدداً من السنين قبل أن يعلنوا بنودها الصريحة، ويخفوا الجانب السري منها إلى حين.
استمرؤوا أسلوبهم هذا الذي اعتادوه، والذي أكد لهم جهابذة مبتكريه جدواه العظيمة، فقد مكثوا خمسين سنة ما بين «هرتسل 1887» حتى الحصول على «التقسيم» وما تلاه من إعلان دولة لهم في عام 1948. كما أثبت لهم ذلك الأسلوب جدواه كذلك على مدى سبعين سنة من عمر كيانهم حتى الساعة، وكان من الممكن، لو أنهم لم يلجؤوا إليه، وكان الطرف الذي هو نحن العرب والفلسطينيون، على قدر من الحصافة والقوة لأمكن إنهاء ذلك الوجود، بل ربما كان ممكناً الحيلولة دون قيامه أصلاً.
هذه البنود التي جرى الكشف عنها الآن، لم يكن فيها ما يستحق التكتم والإخفاء كل هذا الوقت الذي كان يتردد خلاله ذكر «صفقة القرن» صباح مساء، وما بينهما، غير أن الحقيقة هي أن أصحابها كانوا في دأب حثيث على تمهيد الأرض قبيل عرضها، تحاشياً لردود الفعل العنيفة التي كانت ستواجهها من الشعب الفلسطيني وداعميه وشركائه في مقاومة مؤامرات العدو الصهيوني الأميركي.
لجأ الجناة إلى أسلوبهم هذا، أي إنضاج الطبخة على نار هادئة، منذ اتفاق «أوسلو» الذي كان له دور أساسي في تمهيد الأرض، وخلق الظروف الملائمة لتمريرها، وأقدم أولئك، أي الجانب العربي في أوسلو، وعن غباء أو سوء تقدير أو تصورات وهمية على الحصول على مكاسب وطنية، أو غير ذلك، ولكن أوسلو، على أي حال، أسهم بالفعل في تهيئة الأجواء، وتمهيد الأرض لإنجاح «اللعبة» الأخيرة هذه، التي هي مجرد فصل من فصول المؤامرة الكبرى، المرسومة خطوطها منذ زمن بعيد في دهاليز المافيات الصهيونية الأميركية.
فأوسلو لم تبت في أي أمر ذي شأن في قضيتنا يوم توقيعه، وكل ما طلبه الإسرائيليون والأميركيون، على خطورته وأبعاده ونياته المبيتة، وقعوا عليه، وكانت نتائجه ما جرى حتى الآن، وما ترتب عليه من آثار ونتائج، طلب إليهم عدم البحث في موضوع القدس وإرجائه لما بعد، وهو ما أفضى إلى «ضم القدس» إلى الكيان الصهيوني، على أنها عاصمته الأبدية، بفضل حليفهم وشريكهم رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب، مخالفاً بذلك القوانين والقرارات الدولية بشأنها التي لا تقره بل تمنعه من التصرف بأمرها، وقد مثل ذلك في مسألة «التنسيق الأمني» الذي قتل في ظلال تطبيقه، بإشراف الجنرال الأميركي كيث دايتون آلاف من الفلسطينيين، وحل بهم من الأذى ما يجل عن الوصف، ومثل ذلك أيضاً في مسألة المستوطنات وموافقة الرئيس المذكور ترامب، لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على اعتبارها «شرعية لا تخالف القرارات والقوانين الدولية» كذباً مكشوفاً وتضليلاً متعمداً! هكذا شاء الرجلان، وما يشاءان، لا بد أن يصبح واقعاً «ملموساً مقدساً»، على حد تعبير السيد رئيس السلطة الذي أعلن ذات يوم أن «التنسيق الأمني مقدّس»! كإعلانه عن عدم «سماحه» بانتفاضة مسلحة ويبدو أن هذه كانت ضمن شروط اتفاقية أوسلو السرية.
من هنا رأينا بنود هذه الصفقة تنص على منحها زمناً هو ثلاث سنوات، لضمان قبولها وتطبيقها من دون عوائق حتى تتهيأ الظروف لذلك.
نعم إن معظم بنود مسودة الصفقة التي كشف السر عنها الآن تشترط إعطاءها ثلاث سنوات للنفاذ وهي في مجملها لا تقدم للفلسطينيين شيئاً، بل تمهد لسلبهم كل شيء مما تبقى لهم.
هذه الشروط إن هي إلا إعطاء العدو فرصة خلق الظروف لإنهاء ما في جعبته من مخططات للقضاء على المسألة الفلسطينية تماماً، بالتهويد، وبالاستيلاء على يهودا والسامرة «الضفة»، وبترحيل كل من هو غير يهودي عن الأرض الفلسطينية، وبالقضاء على مجرد المطالبة بحق العودة، فالزمن كفيل بإنهاء من يزعم أن هذا الحق لمن ولد بفلسطين قبل عام 1948 وفق رواية نتنياهو المعلنة بالأمس القريب، ويمنح الفلسطينيين، ذراً للرماد في العيون، دولة اسمية ليس لها من المقومات ما يجعل منها دولة بأي معنى أو صفة، في حدود حيِّز ضئيل من الأرض المحاصرة إكساباً للدولة الإسرائيلية «شرعية دولية» كاملة لكل ما حصلت عليه، وهو فلسطين بكاملها، وحتى هذه الدولة «لعبة أطفال»، يمكن القضاء عليها في أي لحظة، وإنهاء حكاية التحرير «الشامل الكامل من البحر إلى النهر».
في هذه الأثناء سوف يتواصل كلام الإلهاء والإيهام حول استئناف «مفاوضات السلام»، ويستمر إبان هذا كله القتل والتشريد والاعتقالات والأسر للمئات في كل يوم، وهكذا إلى أن يصل المخطط القديم لليهودية العالمية إلى غاياته النهائية بتحقيق حلمه في الاستيلاء على «أرض الميعاد» و«بناء الهيكل» والتطبع مع عرب كثر خارجين على أمتهم، إلى آخر ما هنالك من إرهاصاتهم وتخرصاتهم، ولهم في رؤساء أميركا، أمثال السيد ترامب، ومن سيأتون بعده، ما يكفل لهم تحقيق ذلك تحت عناوين «الفوضى الخلاقة» أو «التدمير البناء» أو «الشرق الأوسط الكبير» أو «الربيع العربي» أو «الإرهاب العربي والإسلامي»! هم بارعون في ابتكار التسميات والمصطلحات، ويملكون من وسائل الإعلام ما يتيح لهم تعميم رؤاهم وأباطيلهم عالمياً، أو هكذا يظنون على الأقل.
في يقيني أن شيئاً من هذا كله لن يكتب له النجاح ما دام هناك فلسطينيون وعرب مخلصون ومسلمون حقيقيون، كمحور المقاومة، يرون جميعاً أن فلسطينهم المقدسة سوف تتطهر من رجس وجود كيان صهيوني غريب على أرضها، وما هذا كله مما جرى ويجري حتى الساعة غير نذير بالنهاية المحتومة المنتظرة لحلف الشيطان الصهيوني الأميركي في هذه الديار وفي هذا الإقليم كله.
وبعد: هل آن الأوان لأن يكلف القادة الفلسطينيون في الضفة والقطاع عن مزاولة المراوحة في المكان، وعن التلهي بممارسة الألاعيب السياسية العقيمة التي لم تسفر عن غير المزيد من التردي وضياع الفرص والزمن، فضلاً عن تعميق المأساة وإدامتها على مدى عقود مضت من السنين العجاف حتى يوم الناس هذا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن