قضايا وآراء

حقائق قضية العزل

| محمد نادر العمري

برزت في الآونة الأخيرة قضية عزل الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب كمادة للصراع المتصاعد بين الحزبين المتنافسين في حلبة المشهد السياسي الداخلي، بهدف تعزيز التموضع الانتخابي، في ظل مشهد داخلي اتسم بتمسك الجمهوريين بالدفاع عن ترامب رغم كل الخلافات البينية التي ظهرت بين الأخير ونخب حزبه ومنظريه، وإصرار الديمقراطيين على استثمار هذا الملف كمادة دعائية لتحقيق هدف سياسي داخلي من حيث المضمون وبطابع دستوري من حيث الذريعة والشكل، لذلك فإن هذه المادة الدعائية تنقسم إلى شطرين: الأول تشويه صورة ترامب أمام الرأي العام الداخلي عبر اتهامه بخرق الدستور الأميركي في قراراته وسلوكه، والثاني المتعلق باستغلال سلطته ومركزه لتحقيق مصالحه الشخصية على حساب مصالح أميركا العليا وفق وصف خصمه الجمهوري جو بايدن، الأمر الذي يقوض من هيمنة ودور أميركا في إدارة النظام الدولي، الواقع الذي يجعلنا أمام أسئلة عديدة والإجابة عنها تضعنا أمام حقيقة الديمقراطية التي تدعيها أميركا، أهمها:
– هل سينجح الديمقراطيون في استكمال سلوكهم بعزل ترامب ومدى قدرتهم على النجاح بذلك؟
– ما هي تداعيات ذلك على النتائج الانتخابية الرئاسية القادمة؟
– لماذا يتم وصف الإجراء بـ«التاريخي»، وهل معايير العزل سترضي شعوب العالم المظلومة من الهيمنة الأميركية؟
فيما يتعلق بالإجابة عن السؤال الأول ورغم تمكن الديمقراطيين من عزل ترامب داخل مجلس النواب بأغلبية 230 صوتاً مقابل 197 بتهمة استغلال السلطة، وإقرار المجلس تهمة عرقلة عمل الكونغرس بأغلبية 229 مقابل رفض198 صوتاً، إلا أن رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي آثرت عدم تحويل إجراءات العزل لمجلس الشيوخ لعدة أسباب:
1- لنجاح عزل ترامب كلياً عن الرئاسة يحتاج إلى موافقة ثلثي مجلس الشيوخ أي قرابة 67 عضواً، ولكن في ظل هيمنة الجمهوريين على مجلس الشيوخ (٥٣ عضواً من أصل 100) وفشل التوصل لتوافق في المفاوضات بين الحزبين لتمرير القرار وإدانة ترامب، وسط استماتة الجمهوريين بالدفاع عنه رغم أن معظمهم لا يرونه شخصاً يتمتع بالكفاءة اللازمة لأن يكون رئيساً للبلاد، إلا أن أدبياتهم الحزبية تجعلهم يثمنون السلطة على حساب المبادئ التي يدافعون عنها وفق وصف صحيفة «نيويورك تايمز»، لذلك هم ينظرون لهذا التوجه للديمقراطيين بأنه توجه لإسقاط الجمهوريين عموماً من السلطة وليس في استهداف ترامب شخصياً، على عكس الحالة التي تعرّض لها الرئيس بيل كلينتون عام 1998 عندما صوت بعض أعضاء حزبه من الديمقراطيين على إجراءات محاكمته، فضلاً عن وجود ثلاثة من النواب الديمقراطيين لم يصوتوا في مجلس النواب ضد ترامب واحتجوا على قرار العزل.
2- وجود مؤشرات تهدد بنشوب حرب أهلية في حال استمرار الديمقراطيين بمسألة عزل ترامب، وأهم هذه المؤشرات التي يمكن ذكرها هنا:
– تغريدة ترامب مع نهاية شهر أيلول الماضي والتي تضمنت قوله: «في حال نجح الديمقراطيون بعزل الرئيس، فسنشهد اندلاعاً لحرب أهلية من شأنها تقسيم البلاد ولن نستطيع التغلب عليها».
• قيام ما يسمى «حراس القسم» وهي مجموعة منظمة من مؤيدي ترامب وتضم 24 ألف عنصر، بإبلاغ أعضائها أثناء جلسة العزل في مجلس النواب بما يجب القيام والتحضير له حتى هناك بيان وزع بين المجموعة تضمن عبارة «نحن على أعتاب حرب أهلية حامية الوطيس».
وضمن هذا الإطار يمكن قراءة فضاء هذه التهديدات بأنها تدور بين احتمالين: الأول هو مجرد التهديد بنشوب حرب أهلية كأداة ضغط لقطع الطريق أمام الديمقراطيين وتوظيف ذلك لحشد رأي العام خلف ترامب أثناء الانتخابات القادمة، والثاني: هو حتمية الوصول لذلك وخاصة أن بعض السلطات الأمنية ومراكز الأبحاث وصنع القرار السياسي تتناول هذه المسألة بجدية مرتفعة وتحذر من حدوثها بسبب توفر ظروفها ووسائلها وخاصة وفرة السلاح المنتشر من قبل المؤيدين لترامب. فالنائب الجمهوري عن ولاية تكساس لووي غومرت لم يحذر عن عبث في مداخلته بمجلس النواب أثناء التصويت على قرار العزل بنشوب حرب أهلية، حيث أكد أن التجارب التاريخية تشير إلى أن الأسلحة تدخل ساحة المعركة في الشوط الأخير من هذه الحرب.
– اصطفاف اللوبي الإسرائيلي المؤثر والضاغط إلى جانب الرئيس ترامب، وخاصة بعد إغداق الأخير الهدايا المجانية المتتالية على الكيان.
أما الإجابة عن السؤال الثاني والمتعلقة بتداعيات ذلك على الانتخابات القادمة، فإن ما كان يبتغيه الديمقراطيون قد ينقلب عليهم ويصب لصالح خصمهم ترامب، وقد يكون ما قاموا به من إجراءات العزل دعاية مجانية تصب لصالح ترامب في ظل توافر المعطيات التالية:
1- التوقف عند هذا الحد وعدم استكمال إجراءات العزل أو استكمالها دون التوصل لضمانة أو اتفاق لتمريره في مجلس الشيوخ، قد يؤدي إلى تراجع شعبية الحزب الديمقراطي، الذي سيظهر في كلا الحالتين بأنه ضعيف في الأداء الحكومي ومفاصل السلطة.
2- من الممكن أن يلجأ ترامب خلال الفترة القادمة للإفصاح عن قضايا الفساد التي تتعلق ببايدن وعائلته في أوكرانيا، وإظهار طبيعة استغلال بايدن لمنصبه السابق كنائب للرئيس لتحقيق منافع شخصية بعائلته وخاصة أعمال ابنه هانتر بايدن.
3- في استطلاع أخير للرأي أجرته صحيفة «وول ستريت جورنال» وقناة «Nbc» أظهرتا أن 48 بالمئة من المستطلع آراؤهم يؤيدون قرار العزل ولكن في الوقت ذاته 48 بالمئة أيضاً يرفضونه.
4- مايهم الناخب الأميركي هو تحقيق أمرين: الأول تحسين مستوى المعيشة وارتفاع دخله وانخفاض مستوى البطالة وهذا حققه ترامب خلال الحفاظ على معدلات النمو الاقتصادي 3.1 إلى 3.3 بالمئة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بغض النظر عن الأساليب الابتزازية، التي لاتهم الناخب الأميركي، والثاني الحفاظ على حياة الجنود الأميركيين في الخارج.
– الإجابة عن السؤال الثالث يضعنا أمام حقيقة مفادها: نعم هذا الإجراء يمكن وصفه بالتاريخي ولم يحصل خلال أكثر من 231 عاماً، إلا لثلاث مرات، ولكن الإجراءات السابقة والحالية ضد ترامب هل يمكن تصنيفها في إطار الحفاظ على المعايير الدستورية والأخلاق السياسية؟ الجواب قطعاً لا، هي إجراءات لهدف سياسي داخلي فقط يتعلق بصراع الحزبين للوصول للسلطة أو الحفاظ عليها.
فالولايات المتحدة الأميركية لو أنها تقدم على محاسبة أي رئيس على الانتهاكات الداخلية التي يرتكبها من معيار الأخلاق والدستور والقانون كان جديراً بها محاسبة الجرائم الكبرى التي ارتكبها رؤساؤها تجاه دول العالم والإنسانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا، من قصف هيروشيما ونيكازاكي بالقنابل الذرية وصولاً لغزو أفغانستان والعراق وليبيا بـ«الأسلحة الذكية» مروراً بمحارق فيتنام ومجاعات الحصار الاقتصادي في إفريقية وأميركا اللاتينية، لذلك لم يعد يعني العالم ما يحصل من تبدل لأسماء الرؤساء داخل الولايات المتحدة الأميركية ولا من وصول أي من الحزبين للسلطة مادامت الإستراتيجية الأميركية ثابتة وتتبلور حول تحقيق مصلحة أميركا في العالم على حساب باقي الشعوب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن