ثقافة وفن

تاريخ مجلس الدولة السوري من المهد وحتى صدور القانون رقم 32 لعام 2019 … صبري العسلي: نحنُ إما دولة وإما لا… فلا وجود لدولة لاتحترم قرارات قضائها

| المحامي أحمد وليد منصور

مجلس الشورى لعام 1947

بتاريخ 4 حزيران 1946 خول المجلس النيابي السوري السلطة التنفيذية حق إصدار مراسيم اشتراعية.
فكان أن أصدر الرئيس شكري القوتلي رئيس الجمهورية بناء على اقتراح رئيس مجلس وزرائه المرسومين الاشتراعيين رقما 71 و72 في 30 حزيران 1946 المتعلقين بمجلس الشورى السوري ومستمدين من القرار 72/ ل. ر مع اختلاف بالصياغة، فالمرسوم الاشتراعي 72 لعام 1947 حدد أصول المحاكمات أمام مجلس الشورى المحدث بموجب المرسوم الاشتراعي 71 لعام 1947 تتعلق بآلية رفع الدعوى أمام هذا المجلس وكيفية قبولها أو ردها.
وقد عرف مجلس الشورى بموجب المادة الأولى من المرسوم الاشتراعي 71 على أنه «هيئة إدارية عليا تحكم في القضايا الإدارية وتتولى دراسة مشاريع القوانين وإبداء الرأي في الاختلافات والشؤون الإدارية».
وبحسب المادتين الثالثة والرابعة من هذا المرسوم فقد تم تعيين مقره بمدينة دمشق وتم ربطه برئاسة مجلس الوزراء وذلك بغية تقوية طابعه الإداري، وعدم ترك أي صلة له ولو شكلية بالقضاء العادي كما أعطى رئيس مجلس الشورى صلاحيات الوزير المختص بالنسبة إلى مجلس الشورى وموظفيه.
وبالتالي فإن هذا المرسوم قد أعطى الصفة القضائية والتشريعية للمجلس كما قسم قضاء المجلس إلى قضاء أعلى وهو أعلى محكمة في سلم المحاكم الإدارية والقضاء العام والقضاء العادي، كما حدد اختصاصات مجلس الشورى والدعاوى التي ينظر بها.

نحنُ إما دولة وإما لا..

هناك مثال رائع على احترام الحكومة للقرارات القضائية الصادرة عن مجلس الشورى، يتجسد هذا المثال بشخصية وزير الداخلية صبري العسلي الذي شغل هذا المنصب بحكومة سعد اللـه الجابري عام ١٩٤٦، وحدث أنه عندما كان في مكتبه دخل عليه أمين عام الوزارة، وقال للوزير: (حضر فلان، وذكر اسمه، وقد أخذ حكماً من مجلس الشورى على وزارة الداخلية بإلغاء قرار تسريحه وإعادته إلى وظيفته ودفع جميع رواتبه المتراكمة، وهي تتجاوز العشرة آلاف ليرة سورية، فصرفته بسلام دون أن ألبي طلبه بتنفيذ القرار) وكان الأمين العام يروي ذلك فخوراً ويظن بأنه يؤدي خدمة.
ولكن الوزير صبري العسلي، اغتاظ من هذا الجواب والتصرف وقال للأمين العام: (لا أقبل منك هذا، فنحن إما دولة أو لا، فإن كنا دولة فيجب أن نحترم قضاء بلادنا وأن نعمل على تنفيذ الأحكام الصادرة على الدولة، لا أن نتهرب من الواجب، هذا ليس عمل دولة، ابعث الآن وراء الموظف الذي راجعك ونفذ له الحكم بجميع محتوياته، وإن كان لديك أحكام أخرى فنفذها جميعها، ولا تترك مجالاً لظلم المواطنين). فخجل الأمين العام وانصرف وعمل بتوصيات وزير الداخلية بكل دقة وأمانة.

القضاء الإداري بموجب الدستور السوري لعام 1950 وحتى قيام الوحدة

عانت سورية في العام 1949 من لعنة حقيقية، شكلت انقلاباً على الحكم الديمقراطي السوري، ألا وهي لعنة الانقلابات التي ابتدأها حسني الزعيم ثم تلاه سامي الحناوي، قبل أن يحسم أديب الشيشكلي هذه الانقلابات بانقلاب أخير عام 1951 تفرد من خلاله بالحكم في سورية.
كان هاشم الأتاسي قد عُيّن رئيساً للدولة مرة ثانية في أيلول 1949، وقد اجتمعت في عهده الجمعية التأسيسية في الخامس من أيلول 1950 وتم إقرار دستور سوري جديد نص في المادة 108 منه على أن يمارس القضاء في الدولة:

١- المحكمة العليا.

٢- محكمة التمييز.

٣- المحاكم الأخرى.

ولم يأت على ذكر مجلس الشورى.
ثم نص في الفقرة (ه) من المادة 122 على أن تنظر المحكمة العليا بصورة مبرمة بطلب إبطال الأعمال والقرارات الإدارية والمراسيم.

وبالتالي يعتبر هذا الدستور قد ألغى ضمنياً مجلس الشورى واستعاض عنه بالمحكمة العليا.
ونتيجة لذلك وبتاريخ 31 كانون الثاني 1951 تم إصدار القانون رقم /82 / الذي ألغى بموجب مادته الأولى بشكل صريح المرسومين التشريعيين رقم 71 و72 الصادرين في 30 حزيران 1947 القاضيين بتشكيل مجلس الشورى واستعاض عن مجلس الشورى بالمحكمة الاستئنافية التي أعطاها صلاحية البت في القرارات الإدارية بصورة مبرمة.
وأعطى الغرفة المدنية بمحكمة التمييز الفصل في القرارات الإدارية الصادرة بالدرجة الأخيرة.
أما المحاكم العادية فتنظر ضمن قواعد اختصاصها في بقية الدعاوى.

لم تستمر الأوضاع على حالها كثيراً فيما يتعلق بالدعاوى الإدارية فقد نفذ أديب الشيشكلي انقلابه على الرئيس هاشم الأتاسي في 30 تشرين الثاني 1951 وعين فوزي سلو رئيساً للدولة السورية، الذي أصدر بتاريخ 21 كانون الثاني 1952 المرسوم التشريعي رقم 72 القاضي بإحداث غرفة إدارية لدى محكمة التمييز تنظر في الدعاوى الإدارية بصورة نهائية وعيّن القاضي رشيد حمدان رئيساً لها.

وكانت هذه الغرفة على الرغم من ربطها بمحكمة التمييز إلا أنها تتمتع باستقلالية كبيرة في عملها.
وبتاريخ 24 شباط 1954 وقع انقلاب آخر على عهد الرئيس أديب الشيشكلي اضطره إلى تقديم استقالته ومغادرة البلاد.
عادت بموجبها الحياة الدستورية إلى سورية، كما عاد الرئيس هاشم الأتاسي ليتابع فترته الرئاسية التي توقفت بسبب انقلاب الشيشكلي.

وعليه عاد العمل بدستور 1950 فأصدر مجلس الوزراء برئاسة صبري العسلي كتابين برقم 1124 تاريخ 9 آذار 1954 أحدهما إلى القاضي رشيد حمدان رئيس الغرفة الإدارية بمحكمة التمييز يعلمه بإلغاء محكمته جراء عودة الدستور وإلغاء العمل بالقوانين المخالفة له.

والكتاب الآخر وجه إلى رئيس المحكمة العليا وجيه الأسطواني والعضوين السيدين فائق المدرس وأنيس الملوحي يعلمهما بعودة محكمتهما إلى العمل بعد أن جرى تعطيلها بعهد الرئيس أديب الشيشكلي، ويعود إليها أمر البت في الدعاوى الإدارية.

مجلس الدولة والجمهورية العربية المتحدة 1958

انتهت ولاية الرئيس هاشم الأتاسي بانتخاب الرئيس شكري القوتلي رئيساً للجمهورية في العام 1955 بقي الحال بالنسبة للدعاوى الإدارية على ما هو عليه بنظرها أمام المحكمة العليا المشكلة بموجب القانون 57 لعام 1950.
نعمت سورية بفترة من الاستقرار والرخاء السياسي والاقتصادي، لم ينغصها إلا قيام مجموعة من الضباط بالذهاب منفردين دون أخذ رأي القيادة السياسية التي يتبعون لها إلى مصر، والالتقاء مع الرئيس جمال عبد الناصر.
ترتب على هذا اللقاء اجتماعات أخرى مع القيادة السياسية السورية انتهت بإعلان الوحدة في 22 شباط 1958 بين الجمهورية السورية والجمهورية المصرية تحت ما سمي «الجمهورية العربية المتحدة» وانتخاب جمال عبد الناصر رئيساً لها.
حاول الرئيس جمال عبد الناصر استنساخ مصر أخرى داخل سورية فكان استنساخ مجلس الدولة السوري من مجلس الدولة المصري المحدث بالقانون رقم 165 لسنة 1955.
وهكذا أصدر الرئيس عبد الناصر القانون رقم 55 لعام 1959 القاضي بإحداث مجلس الدولة السوري وإلغاء العمل بالقانون 57 لعام 1950 المتعلق بالمحكمة العليا.

وقد نص هذا القانون على أن يحدث في الجمهورية العربية المتحدة مجلس الدولة بهيئة مستقلة تلحق برئاسة الجمهورية.
وتتكون من قسمين ١- قضائي – ٢- قسم استشاري للفتوى والتشريع.
أما القسم القضائي فيتألف من:

أ‌- المحكمة الإدارية العليا

ب‌- محكمة القضاء الإداري

ت‌- المحاكم الإدارية

ث‌- هيئة مفوضي الدولة

ويكون مقر المحكمة الإدارية العليا بالقاهرة ويجوز بقرار من رئيس المحكمة أن تعقد جلساتها بدمشق لنظر القضايا الخاصة بالإقليم السوري.

كما حدد هذا القانون اختصاصات مجلس الدولة بشكل واضح، ولكن تبقى النقاط التي حددها هذا القانون خطوطاً عريضة، سار عليها القضاة في مجلس الدولة واتخذوا أمام الحالات التي لم يتطرق لها هذا القانون مجموعة من الاجتهادات، التي باتت تعبر عن التوجه الحقيقي للمجلس في كل حقبة من الحقبات.

مجلس الدولة زمن الانفصال وحتى صدور القانون ٣٢ لعام ٢٠١٩

جراء الانتهاكات الكبيرة التي ارتكبها الموظفون المصريون من عسكريين ومدنيين بحق السوريين في الإقليم السوري، والتي عجز الرئيس جمال عبد الناصر عن معالجتها بحكمة، قامت مجموعة من الضباط بتنفيذ انقلابهم ضد الوحدة في أيلول 1961، سمي هؤلاء الضباط بالانفصاليين برئاسة عبد الكريم النحلاوي، وسمي العهد اللاحق لعهد الوحدة بعهد الانفصال.
وكان لزاماً على العهد الجديد إجراء تعديلات على قانون مجلس الدولة رقم /55/ لعام 1959 بما يتناسب مع الأوضاع الجديدة للبلاد.

فصدر المرسوم التشريعي رقم /50 / لعام 1961 والقاضي بإلغاء المادة الأولى من مجلس الدولة السوري الصادر بالقانون /55/ لعام 1959 والاستعاضة عنها بالمادة التالية:

«مجلس الدولة هيئة مستقلة تلحق برئاسة مجلس الوزراء».

كما نصت المادة /31/ من هذا المرسوم على أن يكون مقر المحكمة الإدارية العليا ومحكمة القضاء الإداري والمحكمة الإدارية بدمشق ويجوز إنشاء محاكم إدارية أخرى في المحافظات بموجب مرسوم.
كما نص هذا على بعض التعديلات المتعلقة بتشكيل وتكوين المجلس وتعديل بعض اختصاصاته.
ثم صدر لاحقا المرسوم /180 / في 10/12/1961 والذي أضاف بعض التعديلات الأخرى على القانون /55/ لعام 1959 وخاصة فيما يتعلق بوكلاء رئيس المجلس وبتعديل جدول الوظائف والمرتبات الخاص بالمجلس.
انتهى عهد الانفصال ليبدأ عهد آخر في ٨ آذار ١٩٦٣، وقد صدر عن مجلس الرئاسة بذلك الوقت عدد من التعديلات على القانون /55/ لعام 1959 أهمها التعديلات الحاصلة على ملاك مجلس الدولة الصادرة بالمرسوم التشريعي رقم /59 / لعام 1964.

ثم صدر القانون رقم /1/ لعام 1993 الذي عدل بعض اختصاصات مجلس الدولة، وسمح بإحداث محاكم قضاء إداري في المحافظات على أن تتولى محكمة البداية المدنية في كل محافظة صلاحيات واختصاصات محكمة القضاء الإداري بالنسبة للدعاوى المتعلقة بنازعات الضرائب والرسوم وتخضع جميع القرارات الصادرة عنها للطعن أمام المحكمة الإدارية العليا.
ثم صدر القانون رقم /13/ لعام 2011 القاضي بإحداث محاكم قضاء إداري ومحاكم إدارية في المحافظات بمرسوم بناء على اقتراح رئيس مجلس الدولة وعلى أن تستمر محاكم البداية في مركز كل محافظة بالنظر في الدعاوى المذكورة بهذا القانون لحين إحداث المحاكم الإدارية فيها.

وبناء على أحكام القانون /13/ صدر المرسوم رقم 219 لعام 2011 والقاضي بإحداث محكمة قضاء إداري في عدد من المحافظات منها محافظات حلب وحمص ودير الزور.

وعلى هذا استمر العمل بأطول قانون عرفه القضاء الإداري بسورية منذ العام ١٩٥٩ وحتى إلغائه في العام ٢٠١٩، فماهو القانون ٣٢ وكيف صدر الأمر الذي سنتابعه في الحلقة القادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن